كثيراً ما أبدأ درسي حول الانفعالات بالطلب من طلابي أن يدوّنوا على ورقة الانفعالات التي تمرّ في خاطرهم. وأترك لهم أقل من دقيقة ليفعلوا هذا. وفي كل الحالات تأتي النتيجة هي ذاتها: الفرح، الحزن، الخوف والغضب هي الانفعالات التي يذكرها الجميع تقريباً. أمّا الانفعالات الأخرى، كالخجل والذنب والحسد والكبرياء، فهي أقل وروداً. تشير هذه التجربة الصغيرة إلى نقطتين: أولاً، الانفعالات التي تتبادر إلى الذهن لا تختصر بتمييز أولي بن انفعالات إيجابية وممتعة وانفعالات سلبية ومزعجة. بل على العكس، فهي توصف بواسطة كلمات تحيلنا إلى حالات انفعالية مميزة الواحدة عن الأخرى. ثانياً، باستطاعتنا أن نلاحظ أن بعض الانفعالات تأتي إلى الذهن بسهولة أكبر من سواها. ويبدو بالتالي أن كل الانفعالات لا تمتلك الوضعية ذاتها، فبعضها أساسي أكثر من غيره. بكلمات أخرى، ثمّة حالات انفعالية أساسية تشكل الجزئيات الأولية وغير القابلة للانقسام في الحياة العاطفية. ونحن نجد هذه الفكرة في تصنيف الانفعالات الذي يميز بين الانفعالات الأساسية أو الأولية والانفعالات الاجتماعية، أو الأخلاقية أو الانعكاسية أو أحياناً الثانوية، وهو تصنيف يتفق حوله غالبية العلماء اليوم.
الانفعالات الأوليةتحيلنا الانفعالات الأولية إلى عدد ضئيل من الانفعالات المتمايزة وغير القابلة للانقسام، ويتراوح عددها ما بين ستة وإحدى عشرة بحسب المؤلفين. ومهما كانت قائمة الانفعالات هذه، فإننا نجد فيها على الأقل الانفعالات الستة الآتية: الخوف، الغضب، الحزن، القرف، الفرح والمفاجأة. وهي تتضمن بالتالي الانفعالات الأربعة التي تبادرت إلى ذهن طلابي.
بأي معنى تكون الانفعالات أوّلية؟ صفة "أولية" يمكن أن تفهم بطرائق مختلفة. قد تعني أوّلاً "أساسية" أي إنّ الانفعالات المعقدة قد تكون نتيجة تركيب انفعالات أولية. ثانياً، قد تعني أن هذه الانفعالات هي كيانات منفصلة غير متصلة الواحدة بالأخرى وليست ظواهر متشابهة تتمايز فقط بشحنتها الإيجابية أو السلبية وبقوتها أو ضعفها. المفهوم الثالث يتصل بقوة بالمقاربة التطورية التي تنسب إلى الانفعالات أصولاً بيولوجية موروثة. كان داروين يتحدث عن الانفعالات "الكبرى" التي تظهر بالطريقة ذاتها عند كل البشر، بغض النظر عن الجنس والسن والثقافة. وقد كان طرح داروين الشمولي نقطة انطلاق أعمال بول إيكمان، الاختصاصي المشهور عالمياً في مجال التجليات الانفعالية. وقد أبرز إيكمان وزملاؤه، في سياق برنامج أبحاث واسع وبَيْثقافي، وجود عدد صغير من الانفعالات الأولية، وهي الانفعالات الستة التي جئنا على ذكرها، والتي تظهر بشكل عالمي عن طريق استجابات تعبيرية وفسيولوجية خاصة. فما السمات الخاصة لهذه الانفعالات الأولية؟ يقول إيكمان إنّ هذه الانفعالات مبرمجة سلفاً، وهي بهذا المعنى سهلة وسريعة الحدوث، وتؤدي فوراً إلى ردود تأقلمية تسمح بمواجهة أحداث قد تكون مهددة. تستثار الانفعالات الأولية عن طريق أحداث ارتدت ليس فقط خلال التطور النشوئي ولكن أيضاً خلال مراحل النمو الفردي، كثيراً ما يتم تقييم هذه الأحداث بطريقة تلقائية، وهذا ما يفسر سرعة الاستجابات الانفعالية.أمّا سمات الانفعالات الأولية الأخرى فهي تتضمن طابعها الموروث. وهي بالتالي موجودة منذ الولادة لدى البشر كما لدى الثدييات العليا. وترتبط بتعابير في الوجه مميزة وعالمية. إن عدداً كبيراً من الأبحاث البَيْثقافية قد دل على أنّه يتم التعبير عن هذه الانفعالات الأولية الستة والتعرف عليها بالطريقة ذاتها من جانب أعضاء مختلف الثقافات الغربية (بلدان أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأوروبا) وغير الغربية (بلدان آسيا وأفريقيا) وأيضاً من قبل أفراد ثقافات معزولة جدّاً في غينيا الجديدة. وهكذا، بغض النظر عن الأصول الثقافية، يتعرف الناس على تعابير الوجه العائدة إلى الانفعالات الأولية الستة مستخدمين المصطلح الانفعالي ذاته. أما العامل الاضافي الذي يدعم طرح عالمية تعابير الوجه الخاصة بالانفعالات الأولية وطابعها الموروث فهو أنّ الأطفال الذين يولدون فاقدي البصر يظهرون تعابير مماثلة للأطفال الآخرين، وهو أمر يصعب تفسيره من خلال التعلم الاجتماعي.
الانفعالات الاجتماعيةتؤدي الانفعالات الاجتماعية، كما يشير اسمها، دوراً مهماً جدّاً في الحياة الاجتماعية. وهي تعتمد بشدة على علاقاتنا مع الآخرين. ويشكل الحسد والغيرة والذنب والخجل والكبرياء جزءاً من الانفعالات الاجتماعية، فما الفرق بينها وبين الانفعالات الأولية؟
على عكس هذه الأخيرة، فإنّ الانفعالات الاجتماعية ليست موروثة، بل مكتسبة خلال الطفولة، وهي لا تمتلك تعابير في الوجه متميزة ولا ردود فسيولوجية خاصة بها. هي تعتبر أكثر تعقيداً لأنّها تحتم وجود آليات معرفية متطورة، أي آليات مقارنة بالآخرين (المقارنة الاجتماعية) وآليات تقييم الذات، ما يفسر ظهورها المتأخر في مراحل النمو. وهي تتطلب قبل أي شيء آخر إدراكاً للذات، أي تصوّراً عن الذات ككيان منفصل عن الآخرين. لهذا السبب تدعى بالانفعالات الانعكاسية أو الانفعالات التي تدركها الذات. تكتسب القدرة على النظر إلى الذات ككيان مختلف عن الآخرين، ما بين الشهر الثامن عشر والرابع والعشرين، حيث يبدأ الأطفال باستعمال ضمير "أنا". وفي السن ذاتها، يتعرف الأطفال على صورتهم في المرآة وتظهر الانفعالات الاجتماعية تدريجياً. وكثيراً ما تعتبر هذه الانفعالات الإنسانية بشكل حصري، إلا أنها تظهر أيضاً لدى بعض الحيوانات، وبالتحديد لدى بعض الثدييات العليا ولدى الدلافين والفيلة، ما يشير إلى وجود وعي للذات لديها ولو بشكل بدائي. يمكن تمييز الانفعالات الاجتماعية بحسب الآليات المعرفية الخاصة التي تستند إليها بشكل أساسي، أي المقارنة الاجتماعية وتقييم الذات، يفترض الحسد والغيرة مقارنة النفس، بصفاتها وممتلكاتها وأدائها مع صفات وممتلكات وأداء الآخرين. وتطرأ الغيرة حين يشعر شخص ما ان علاقة مهمة بالنسبة إليه يهددها طرف ثالث (المنافس). وتكون الغيرة أشد بقدر ما يبدو المنافس أكثر تفوقاً في مجالات معتبرة ومهمة. ويتميز الحسد بالرغبة في الحصول على ما يمتلكه الآخر (الوضعية الاجتماعية الرفيعة، الشقة الجميلة، المال، الشهادة الجامعية، النجاح في العمل، الشخصية المحببة...). وهو مرتبط بشعور عدم الاكتفاء والدونية وترتكز الغيرة ومعها الحسد على المقارنة مع الآخر، وهي مقارنة تكون لغير مصلحة الذات. بيد أنّه على الرغم من طابع هذين الشعورين المزعج، إلا أنهما قد يكونان مفيدين ووظيفيين لأنهما يحفزان على القيام بسلوكيات تهدف إلى تحسين النفس أو تحسين العلاقة مع الآخر. يحتم الخجل والذنب والكبرياء تقييماً للذات مبنياً على مقارنة تستند إلى معايير ذاتية وقيم أخلاقية أكثر من استنادها إلى صفات الآخرين وممتلكاتهم. لهذا السبب تسمى أيضاً بـ"الانفعالات الأخلاقية". مثلاً. الخجل والذنب ينجمان عن تقييم سلبي للذات، بيد أنّ الإحساس بالخجل ليس الشيء ذاته كالإحساس بالذنب ولا يؤدي إلى النزعات السلوكية ذاتها، فالذنب عامة ما تشعر به حينما يدرك المرء أن سلوكياته سيئة النية وجارحة أو غير أخلاقية وقد سبب إساءة إلى الآخرين. أما الخجل، فهو يعني في المقابل أن ننظر إلى النفس على إننا من دون قيمة وعاجزين. بكلمات أخرى، نشعر بأننا مذنبون لما فعلناه ونشعر بأننا خجلون لما نحن عليه. ويظهر الذنب في وضعيات التجاوز الأخلاقي (الكذب، الغش، السرقة...) ويتسبب بتأنيب الضمير ورغبة في إصلاح ما أفسدناه، وبهذا المعنى، يؤدي الذنب دوراً مهماً في ضبط السلوكيات الأخلاقية. أما الخجل، فهو يظهر في وضعيات تحتم أداءات أو سلوكيات غير مناسبة وجارحة للنفس. إنّ النزعات السلوكية المتصلة بالخجل، كالرغبة بالاختفاء أو الهرب من وضعية معينة تؤدي وظيفة حماية الذات. ويحتل الخجل والذنب مكانة مهمة في تنمية السيطرة على الذات وضبطها، وهما يؤديان إلى تبني سلوكيات مقبولة أخلاقياً واجتماعياً.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق