إنّ حركة البلاء هي اختبار الإنسان في إيمانه، وفي حركة الطاقات الموجودة في نفسه، فالبلاء ينطلق بأسبابه، فأن تكون فقيراً فليس ذلك على أساس أنّ الله يجعلك فقيراً بشكل مباشر، ولكن فقرك ينطلق من أسباب الفقر التي أودعها الله سبحانه وتعالى في حركة المال في الواقع، وفي حركة الفرص التي يعيشها الإنسان، فأنت قد تفتقر لأنّك لا تملكُ فرصاً للعمل من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بك. وقد تكون غنياً من خلال أنّك ولدت من أبٍ غنيّ، أو لأنّك وجدت في بيئة تتوفر فيها فرص العمل وأسباب الرزق، ومن هنا فإنّ "الفقر" قد حدث بأسبابه الطبيعية التي أودعها الله في الكون وكذلك "الغنى" يحدث بأسباب طبيعية، وهكذا "الضعف" و"القوة" فقد تكون ضعيفاً في جسدك نتيجة بعض الأمراض أو نتيجة تكوينك الجسدي، أو لجهة عوامل الضعف المحيطة بك في الداخل والخارج، وقد تكون قوياً من خلال الأسباب الخارجية التي تكسبُك قوة إلى قوتك، وربما من خلال أسباب داخلية.
ونفس الشيء في حالة النجاح والفشل، والهزيمة والانتصار على مستوى الفرد أو المجتمع، فمسألة البلاء بمعنى الأحداث التي تصيب الإنسان سواءً كانت سلبية أو إيجابية، تنطلق من خلال الأسباب والسنن، فالله تعالى يقول: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112). ويقول سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) (الرّوم/ 41). فالفساد هو تعبير عن اختلال الواقع الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي ينتج للإنسان مشاكل كثيرة في حياته الفردية والاجتماعية، فأنت تذوق وبال أمرك نتيجة كسبك، وتحصد ما تزرع وكما يقول المثل "مَن يزرع الريح يحصد العاصفة" فالريح إذا زرعتها ونمت تصبح عاصفة.
فالبلاء إذن يقع بأسبابه التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ومن خلال ما أراد أن يتحرّك فيه من سنن وقوانين، سواءً كانت هذه السنن تتحرّك في الظواهر الكونية، أو السنن التاريخية التي تتحرّك في حياة وحركة الإنسان في التاريخ والسنن الخفية المودعة عند الله مما يدخل في غيبه.
إنّ البلاء ينطلق من أسباب الواقع "الاختيارية" أو غير الاختيارية، بحيث يجعل الله الإنسان موضوعاً للاختبار والامتحان، فهو "اختبار" لك و"امتحان" لإيمانك وصبرك وشكرك، أتشكر أم تكفر، ولعلّ أوضح دلالة على هذه المسألة آيتان:
يقول الله سبحانه: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت/ 1-2)، أي لا يختبرون ولا يمتحنون، فالفتنة هنا كوسيلة للاختبار تهيِّئ لك الجوّ لأن تفتتن بها.
وأمّا قوله سبحانه: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 3). فالله تعالى يعلم ما عندنا قبل خلقنا من خلال مظاهر السلوك والعمل، ذلك أنّ الحياة هي حركة اختبار دائم وامتحان دائم (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك 2)، لتتحرك في خط التنافس والصراع والتجربة الحية. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء/ 35)، فالشر هو تعبير عن الجانب السلبي في حركة الإنسان. والخير تعبير عن الجانب الإيجابي، وكلاهما فتنة.
ولابدّ لنا أن لا نسقط أمام البلاء، فليس من الضروري أن يكون البلاء عقوبة لك، فقد يكون خدمة أو نعمة، لأنّ الإنسان إذا لم يدخل التجربة الصعبة فسوف يبقى هشّاً لا يملك عزماً ولا إرادة، فكلّما جرّبت أكثر وكلّما عانيت أكثر، وكلّما اقتحمت الصعوبات أكثر، قويت أكثر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق