◄لقد أعدَّ الله نبيه محمّداً (ص) وهيّأه لحمل الرسالة وأداء الأمانة الكبرى وانقاذ البشرية، وحين بلغ الأربعين من عمره الشريف اختاره الله رسولاً وهادياً للبشرية جمعاء. كان ينزل على رسول الله (ص) الوحي بين الفترة والأخرى، يسمعه كلام الله يثبّت به فؤاده، ويؤنسه ويفرحه، ويوصل إليه التعاليم الإلهيّة والإرشادات الربّانية، فكان يجد بذلك رسول الله أنساً لوحشته، وعوناً في تبليغ رسالته، وسكناً يرتاح إليه، وفجأة انقطع عنه الوحي لفترة من الزمن، لحكمة إلهيّة يعلمها الله ورسوله، فأثّر ذلك في قلب رسول الله واستوحش فيها لفقد كلام حبيبه، ومما زاد على قلب رسول الله أن بدأ بعض المنافقين يعيّرونه بذلك، ويؤذونه بأنّ الله قد قلاه وبغضه وودّعه وتركه، فكان أن أرسل الله إليه جبرائيل (ع) يسكّن اضطراب قلبه المشتاق، فكانت سورة الضحى.
في بداية السورة المباركة يوجد قَسَمان: الأوّل قسم بالنور، والثاني قسم بالظلمة، ويقول سبحانه والضحى وهو قسَم بالنهار – حين تغمر شمسه كلّ مكان. والليل إذا سجى أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان. "الضحى" يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعمّ نورها الأرض، وهو في الحقيقة أفضل ساعات النهار، لأنّه شباب النهار، وفيه لا يكون الجوّ حارّاً في فصل الصيف، ويكون الدفء قد عمّ في فصل الشتاء وتصبح خلاله روح الإنسان مستعدّة لممارسة النشاط. (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى/ 2) أي سكن، والليلة الخالية من الرياح تسمّى "ليلة ساجية" أي هادئة، والبحر حين يستقر ويخلو من الأمواج الصاخبة يسمّى "بحر ساج". والمهمّ في الليل هدوؤه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان وأعصابه هدوءاً وارتياحاً، ويعدّ الإنسان لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقّت القسَم بها. وبين القسمين ومحتوى السورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النبيّ (ص)، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنيّة. وبعد القسمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى/ 3). "قلى" من "قلا" – على وزن صدا – وهو شدّة البغض. وفي هذا التعبير سكن لقلب النبيّ (ص) وتسلية له، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست – كما يقول أعداء النبيّ (ص) – لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه. فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه. والله تبارك وتعالى يتابع خطابه لمحبوبه فيقول له: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى) (الضحى/ 4)، فالنبيّ (ص) في هذه الدنيا مشمول بألطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. وهو آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد. وباختصار هو عزيز في الدنيا والآخرة، وقيل إنّ "الآخرة" و"الأولى" يشيران إلى بداية عمر النبيّ (ص) ونهايته، أي إنّك ستستقبل في عمرك نصراً ونجاحاً أكثر ممّا استدبرت. تأتي البشرى للنبيّ الكريم (ص) لتقول له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى/ 5)، وهذا أعظم إكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد (ص). فالعطاء الربّاني سيغدق عليه حتى يرضى وحتى ينتصر على الأعداء ويعمّ نور الإسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولاً بأعظم الهبات الإلهية. والنبيّ الأعظم (ص) باعتباره خاتم الأنبياء (ع)، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقّق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تقبل منه شفاعته في أمّته. ومن هنا جاءت الروايات لتؤكد أنّ هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه وآله أفضل الصلاة والسلام. فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: إنّ رسول الله (ص) قال: "أشفع لأمّتي حتى يناديني ربِّي، أرضيت يا محمّد؟ فأقول: نعم يا ربّ رضيت". إنّ الهدف من هذه السورة المباركة تسلية قلب النبي (ص) وبيان ألطاف الله التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسّد للنبيّ (ص) ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم الله بها على النبيّ (ص)، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر:
1- (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (الضحى/ 6): فقد كنت في رحم أمّك حين توفّي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبدالمطلب "سيّد مكّة". وكنت في السادسة حين توفّيت والدتك، فزاد يتمك، لكنّني زدت حبّك في قلب "عبدالمطلب". وكنت في الثامنة حين رحل جدّك "عبدالمطلب"، فسخّرت لك عمّك "أبا طالب"، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه. نعم، كنت يتيماً فآويتك.
2- (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) (الضحى/ 7): نعم، لم تكن أيّها النبيّ (ص) على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى/ 52).
3- (وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) (الضحى/ 8). لقد جعلناك تستأثر باهتمام "خديجة" هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كلّ ثروتها تحت تصرفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.
وقد ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) في تفسير هذه الآيات قال:
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، قال: "فرداً لا مثيل [له] في المخلوقين، فآوى الناس إليك. ووجدك ضالاً أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. ووجدك عائلاً، تعول أقواماً بالعلم فأغناهم بك".
إنّ هذه الآيات في الواقع هي بيان ما أغدق الله على نبيّه من ألطاف وإكرام واحترام، حين يتحدّث المحبوب عن ألطافه بحقّ العاشق الواله، فإنّ حديثه هذا هو عين اللطف والمحبّة، وهو دليل على عنايته الخاصّة، والعاشق بسماعه هذه الألفاظ تسري في جسده روح جديدة، وتصفو نفسه ويغمر قلبه سكينة وهدوء.
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9): أي لا تحقّر، وهذا يدلّ على أنّ هناك مسألة أهمّ من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزاحة إحساسهم بالنقص العاطفي، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول الله (ص) أنّه قال: "من مسح رأس يتيم، كانت له بكلّ شعرة مرّت عليها يده حسنات". كأنّ الله يخاطب نبيّه قائلاً: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتيم، والآن عليك أن تهتمّ بالأيتام كلّ اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.
والمروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أنّ رسول الله (ص) بعث بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة (610م).
وقد بدأ نزول الوحي عليه (ص) بواسطة جبرائيل الأمين (ع) في غار حراء وهو كهف صغير في أعلى جبل حراء في الشمال الشرقي من مكة كان النبي (ص) يتعبد فيه لله على النحو الذي ثبتت له مشروعيته، وكان قبل ذلك يتعبد فيه عبدالمطلب.
وتفيد الروايات أنّ أوّل آيات قرأها جبرائيل على النبيّ (ص) هي قوله تعالى في سورة العلق: (بسم الله الرحمن الرحيم * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5).
بعد تلقين ذلك البيان الإلهي، عاد النبي (ص) إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به من النبوة والرسالة، مطمئناً إلى المهمة التي شرّفه الله بها، فلم يكن خائفاً أو مرعوباً مما جرى له، بل كان عالماً بنبوة نفسه، وكان ينتظر اللحظة التي يأتيه فيها جبرائيل ليعلن نبوته ورسالته، فلما دخل على خديجة أخبرها بما أنزله الله عليه وما سمعه من جبرائيل فقالت له: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلّا خيراً، وأبشر فإنك رسول الله حقاً.
وقد سُئل الإمام الصادق (ع): كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان؟
فقال (ع): "إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه".
وسُئل (ع): كيف علمت الرسل أنها رسل؟ قال: "كشف عنهم الغطاء".
وقال العلامة الطبرسي: إنّ الله لا يحي إلّا بالبراهين النيرة، والآيات البنية، الدالة على أنّ ما يوحي إليه إنما هو من الله تعالى؛ فلا يحتاج إلى شيء سواها، ولا يفزع ولا يفرق.
انتشر خبر نزول الوحي على النبي (ص) في وسط البيت النبوي.. فبادر عدد من الذين وصلهم الخبر إلى تصديق النبي (ص) والإيمان برسالته، ويوصف الذين بادروا إلى الإيمان بـ"السابقين"، وقد اعتبر السبق إلى الإسلام امتيازاً، ومعياراً للفضل وعلو المنزلة.
ومن المسلمات التاريخية أنّ خديجة بنت خويلد زوجة النبي الأولى كانت أوّل امرأة آمنت وصدقت برسول الله (ص)، وقد صلّت مع رسول الله في اليوم الثاني من مبعثه، وما على وجه الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلّا النبي وعلي بن أبي طالب.
والذي يبدو من النصوص أنّ علياً (ع) سبق خديجة إلى الإسلام، وهذا ما يظهر من كلمة "أول الناس إسلاماً" أو "أوّل الأُمّة إسلاماً" الواردة في أحاديث النبيّ (ص).
أما كيف يسبق عليّ (ع) حتى زوجة رسول الله (ص) التي يفترض أنها ألصق الناس به؟ فيتضح ذلك لو عرفنا أنّ علياً (ع) كان ملازماً لرسول الله (ص) لا يفارقه حتى وهو في غار حراء.
يقول (ع) وهو يصف حاله مع رسول الله (ص): "ولقد كنت اتبعه أتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلّا أنك لست بنبي ولكنك الوزير وإنك لعلى خير".►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق