• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الترجمة.. أدب وفن ومسؤولية

عبدالرحمن العلوي

الترجمة.. أدب وفن ومسؤولية
مع مرور الزمن ظهرت الحاجة إلى ظهور قواعد ومبادىء خاصة تنظم الترجمة وتأخذ بيد المترجم نحو انجاز ترجمة أفضل، وتقديم المادة المترجمة في إطار تمتزج فيه الأمانة – أي المحافظة على روح النص الأصلي – بالإبداع الفني؛ أي ان لا يظهر النص الأصلي في صورته الجديدة بشكل غير محبب إلى القارىء. الترجمة أحد الحقول الأدبية المهمة التي قد تخفى أهميتها على الكثيرين، لا سيما على الصعيد الأدبي والثقافي والاجتماعي، بل وحتى على الصعيد العلمي. وتعد من الفنون القديمة التي أقدم عليها الإنسان واستطاع بواسطتها ان يوصل الأُمم ببعضها ويقلص بين الهوة الفكرية والثقافية التي تفصل بينها. أي انّ الترجمة كانت هي النافذة الوحيدة التي كانت تطل منها أمة ما على أمة أخرى، فتتبادلان المعلومات والثقافات والأفكار والقيم. وليس بمقدور أحد ان ينكر الدور الذي لعبته الترجمة في حركة الحضارة الإنسانية، ونقل الإنسان نقلات نوعية كبرى على طريق النضج والازدهار في شتى الحقول المعرفية، ورفده بمقومات الانطلاق باتجاه ما يحقق له المزيد من التكامل. فالإنسان يمارس من خلال الترجمة دور الأخذ والعطاء، فيأخذ لكي يكمل ما لديه من نواقص وفراغات فكرية وعلمية، ويعطي لكي يكمل ما لدى غيره من تلك النواقص. فالترجمة بتعبير آخر تمثل أروع حالات التلاقح الفكري التي شهدتها الحضارات الإنسانية. وليس بخافٍ على أحد التأثير الذي تركته الترجمة على العالم الإسلامي في مجال الفلسفة، لا سيما بعد تأسيس المأمون العباسي لبيت الحكمة وتعريب الكتب اليونانية، ووقوف المسلمين على فلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما من كبار فلاسفة اليونان القديمة. وقد مهدت هذه الترجمة لظهور فلسفة إسلامية ناشطة على يد الكندي، والفارابي، ومن ثمّ تطورها على يد ابن سينا واضرابه. كما لا يخفي أيضاً التأثير الكبير الذي تركته ترجمة كتب العلماء والمفكرين المسلمين على الغرب ومساهمتها في اخراجه من دوامة التخلف والضياع التي كان يعاني منها، والاستعانة بها في وضع لبنات حضارته التي اكتسح بها العالم فيما بعد، حتى ان كتب الكثير من هؤلاء العلماء والمفكرين المسلمين كانت تدرس لفترة طويلة في الجامعات الغربية وتتناقش آراؤهم ونظرياتهم فيها، كالرازي، وابن سينا، والحسين بن الهيثم، وجابر بن حيان، وابن رشد، وغيرهم.   - تعريف الترجمة: وإذا كانت الترجمة تعني نقل كتابة أو قول ما من لغة إلى لغة أخرى، فأفضل أنواع الترجمة هي تلك التي تنتقل ذات التأثير الذي تتركه نفس تلك الكتابة والقول على قارىء أو سامع اللغة الأولى إلى قارىء وسامع اللغة الثانية. أو انّ الترجمة بتعبير آخر نقل نصل ما من لغة إلى لغة أخرى بدون أدنى زيادة أو نقصان في الشكل والمعنى. والحقيقة انّ هذا التعريف للترجمة، تعريف مثالي، أو لا يخرج عن الإطار النظري، ولا يمكن أن يتحول إلى واقع عملي، فمن المتعذر أن يشترك مقال مكتوب بلغتين مختلفتين بنفس التأثير مهما كان النصان متقاربين في الشكل والمضمون. ولا شك في أنّ العديد من العوامل التي تقف خلف ذلك تعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف كل لغة في هيكليتها وطبيعة تركيبتها، وبالدرجة الثانية إلى نمط كل أمة من الأمم في التعامل مع اللغة وطريقة تأثرها بالمواضيع المستعرضة ونظرتها إلى الأشياء، بل وحتى فهمها العام للحياة ورؤيتها الكونية. فقد يستقطب موضوع ما اهتمام أمة من الأُمم، وقد لا يعد نفس هذا الموضوع مهما ابدأ لدى أمة أخرى، وقد يروق من المواضيع لأمة مالا يروق لأمة ثانية، وقد لا تعني الطريقة التي تفجر ضحك الغربي، شيئاً عند الشرقي، وهكذا. فالتركيبة اللغوية هي العامل الأساس وراء الاختلاف في التأثير بين اللغات، حيث تستخدم كل لغة مفردات خاصة بها، تتميز كل مفردة منها بمعنى أو معان خاصة أيضاً. ويعود وقوع وترتب المفردات في كل لغة إلى قواعد تلك اللغة التي تختلف بطبيعة الحال عن قواعد أية لغة أخرى، مما يعطي للجمل والعبارات روحاً خاصة تختلف عن الروح التي تمنحها اللغة الأخرى لنفس المفهوم ولذلك يبدو من المتعذر نقل الروح التي يتسم بها موضوع ما في إحدى اللغات إلى عين الموضوع في لغة أخرى، فضلاً عن امتناع نقل نفس الشكل والصورة، دون اللجوء إلى نوع من التلاعب الفني المفروض الذي تمليه طبيعة اللغة المترجم إليها، كحذف بعض الكلمات والحروف وإضافة البعض الآخر، والتقديم والتأخير في بعض المفردات، وجملة ما تفرضه الطبيعة الفنية والتركيبية للغة الثانية، فضلاً عن أخذ ذوق القارىء الجديد ونفسيته بنظر الاعتبار.   - صعوبة مهمة المترجم: وانطلاقاً من ذلك، ومع مرور الزمن ظهرت الحاجة إلى ظهور قواعد ومبادىء خاصة تنظم الترجمة وتأخذ بيد المترجم نحو انجاز ترجمة أفضل، وتقديم المادة المترجمة في إطار تمتزج فيه الأمانة – أي المحافظة على روح النص الأصلي – بالإبداع الفني؛ أي ان لا يظهر النص الأصلي في صورته الجديدة بشكل غير محبب إلى القارىء الثاني، مما ينعكس سلباً على رأيه بذلك النص ومؤلفه، وهذا يعني انّ المترجم أمام مهمة خطيرة جدّاً وليست باليسيرة كما يتصور البعض من غير الاختصاصيين. فالترجمة في الحقيقة مهمة شاقة، بل وأشق من مهمة التأليف بكثير. فالمؤلف يكتب بلغته التي ليس لديه مشكلة فيها، ويعبر عن أفكاره التي يفهمها ويدركها أكثر من غيره، ولهذا لا يواجه الصعوبة التي يواجهها المترجم على صعيد اللغة والمفردات والصايغة اللغوية التي لابدّ فيها من إيجاد التوازن الكامل بين لغتين مستقلتين، تتميز كل منهما بقواعدها الخاصة ونمطها الخاص، وأسلوبها الاسترسالي الخاص، وحتى إيقاعات مفرداتها، وتناسق تعابيرها، وطبيعة انسجامها مع روح القارىء التي كتبت له ونمط تفكيره، وخلفيته الفكرية والحضارية، والكثير من العوامل والمرتكزات اللغوية والذهنية والفكرية؛ وكذلك على صعيد المخاطر والمحاذير التي يواجهها في عملية سلامة نقل الأفكار والرؤى، وضرورة عرضها على قارىء اللغة الجديدة بالشكل الذي يحافظ على مدلولاتها وبيت القصيد فيها، فضلاً عن وجوب تقديمها بالصورة التي لا تفقدها الجذابية التي كانت لديها في اللغة الأُم، ولا تخل بطابعها الجمالي والفني.   - حفظ روح النص وفكرته: ومن هنا يتضح لنا مدى ثقل المهمة التي يواجهها المترجم في عملية الترجمة لأن فيها التحديد والتقييد من جهة، والمطالبة بالإبداع والتألق من جهة أخرى. والذي لم يمارس الترجمة أو لم يتوغل في أعماق هذا الحقل الأدبي الفني، لا يدرك جسامة تلك المهمة والصعوبة الكبيرة التي يواجهها المترجم خلال عملية الترجمة، حتى وإن كان النص مما يعد من النصوص السهلة. لأنّ القضية ليست أن يعطي المترجم لكل كلمة معناها في اللغة الثانية، وإنما أن يقدم النص الأصلي نفسه دون زيادة أو نقصان – قدر المستطاع – ولكن بثوب جديد، فلابدّ له أن يحافظ على محتواه وروحه وفكرته من جانب، وأن يحفظ صورته وشكله وصفاته وحركاته وسكناته وكل ما يتعلق بالظاهر من جهة أخرى، أي لو قدر للمؤلف أو القارئ الذي قرأ ذلك النص بلغته الأولى، أن يعرف اللغة الثانية، ويقرأه في هذه اللغة أيضاً لما وجد هناك اختلافاً بين النصين الأول والثاني، ولادرك انّ الثاني يساوي الأوّل، أو هو نسخة مصورة عنه. هذا الكلام يثار بالطبع على الصعيد النظري أو المثالي، لكنه كلام صحيح وليس فيه ما يثير الاستغراب، وان كان الوصول إليه عملياً أمراً في غاية الصعوبة، لأنّ المترجم لا يمكن للمترجم ان يضع نفسه موضع المؤلف، فيحمل فكره، وروحه، وأسلوبه، وطريقة تفننه، وقابليته على إيصال الفكرة المطلوبة للقارىء، كما انّه لا يرقى إلى مؤلف ذلك النص في فهم الجمهور الذي يكتب له ومدى استيعاب الجمهور لفكرته والطريقة الأمثل في التحدث إليه والنفوذ إلى قلبه. فالمترجم حينما يترجم لا يحمل عن المؤلف سوى النص الذي بين يديه، ومن الصعوبة، أو من المتعذر أن ينقل إلى القارىء من خلاله كل ما كان المؤلف يسعى لنقله إلى قارئه. وغاية ما يمكن أن يقوم به المترجم هو أن يحافظ على المفهوم والمعنى العام الذي يتسم به النص، مع ضرورة الالتزام بالأمانة في نقل ما يفهمه المترجم من النص، أو ما يمكن أن نعبر عنه بالأمانة في الترجمة. الا انّه ليس بامكانه أن ينقل إلى القارىء الجديد، ما عرضه المؤلف على القارىء الأصلي.   - جمهور المترجم: أضف إلى ذلك أنّ المترجم يواجه صعوبة أخرى أيضاً لا يواجهها المؤلف تتصل بطبيعة الجمهور الذي يترجم إليه النص. فالمؤلف قد كتب لجمهور آخر يعرفه ويفهمه، ويعرف كيف يكتب إليه، وما هو الأسلوب الأنجع والأكثر فائدة في مخاطبته والتحدث إليه، والطريقة الأفضل في تقديم فكرته إليه، والصياغة الأدبية المناسبة في بلورة تلك الفكرة وتجسيدها. هذا في حين يواجه المترجم جمهوراً آخر وقراء غير القراء الذين كتب لهم المؤلف. ومن الطبيعي أن يتسم جمهور المترجم بخصوصيات فكرية ونفسية وبميزات حضارية وثقافية تختلف عن الخصوصيات والميزات التي عليها جمهور المؤلف. وهناك احتمال كبير في أن لا يكون للنص المترجم نفس الوقع والتأثير على هذا الجمهور الجديد، وهذا ما يقحم المترجم في ميدان مشكلة جديدة ذات حدين: فعليه أن يتسم بالأمانة في النقل والحفاظ على طبيعة المادة المترجمة من جهة، كما عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات التي يتميز بها الجمهور الذي يترجم إليه. ولا ريب في أن عملاً كهذا لابدّ وان يترك آثاره على صعيد حدوث شيء من الاختلاف بين النص المؤلف والنص المترجم، ولا يعد النص المترجم في مثل هذه الحالة صورة طبق الأصل للنص الأوّل، ولا تعد الترجمة مجرد ثوب جديد، وانما مساحيق جديدة ورتوش إضافية أيضاً.   - الإلمام باللغتين: وعلى ضوء هذه المهمة الشاقة التي تنتظر المترجم، ومن أجل تقليص الاختلاف بين نص المؤلف ونص المترجم إلى أقل ما يمكن، فلابدّ من تميز المترجم بالالمام الكافي باللغتين، أي لغة التأليف ولغة الترجمة. فلا يكفي مجرد الالمام بإحدى اللغتين، وانما لابدّ للمترجم أن يكون ملماً وفي مستوى رفيع جدّاً باللغة غير الأُم أيضاً، كي يكون أكثر استيعاباً ليس لمفرداتها فحسب، وانما للطريقة التي تصاغ بها عبارات ودلالات هذه العبارة وايحاءاتها التي تختلف باختلاف الحدث التي تتحدث عنه، وباختلاف طبيعة استخدام المفردات، والصورة التي تزج فيها المفردة في غمار الحدث. كما تبرز الحاجة أيضاً إلى تجاوز المترجم في المامه باللغة غير الأُم، مجرد الالمام بظاهر اللغة ومعاني الكلمات وطريقة ترتيب الجمل والعبارات، إلى استيعاب الروح اللغوية أيضاً، وقراءة ماوراء الكلمات، وادراك المعاني الخفية، والإيحاءات الرمزية، والدلالات التي لا يمكن لظاهر الألفاظ أن يعبر عنها أو يشير إليها. فبعض المفردات تعطي بعض المعاني التي لا يمكن أن تظهر من خلال ظاهرها، وانما لابدّ من التفتيش عن معاناها الحقيقي في باطن تلك المفردة اعتماداً على موقع المفردة في الجملة أو العبارة من جهة، والطابع العام الذي يكتنف العبارة أو المقطع من جهة ثانية، والإيحاءات المنسجمة مع روح النص والتي توحي بها المفردة أو العبارة من جهة ثالثة.   - المعايشة اللغوية: إنّ ترجمة ظواهر المفردات والعبارات في بعض الأحيان، توقع المترجم في مغالطات لا يمكن تداركها وتعكس طابعاً على النص غير الطابع الذي يعكسه النص الأصلي، وقد تخل بمساره وشكله العام. ولا يتأتي فهم المعاني المستترة أو المغزي اللامرئي الا من خلال فهم المترجم لروح اللغة غير الأُم ومعايشته لهذه اللغة من خلال التعايش مع المتكلمين بها وتبلور ذهنية خاصة لديه عن تلك اللغة. ومن هنا، قد لا يكون الالمام اللغوي الناجم عن الدراسة الأكاديمية كافياً على صعيد الترجمة، لأنّ الدراسة الأكاديمية الصرفة ليس بامكانها أن تقدم للمتعلم الروح اللغوية، ولا توفر له الفرصة لكي يفهم بواطن الكلمات ويستوعب المعاني ليس من خلال ظاهر الكلمة، بل من خلال طريقة تلفظها، وأسلوب عرضها ,علاقتها بما قبلها وما بعدها من الكلمات..   - المترجم الناجح: ولابدّ أن نشير أيضاً إلى الترجمة وانطلاقاً من كونها فناً وأدباً وعلماً، وعلى ضوء كونها مهمة صعبة شاقة بحاجة إلى خبرة، واستيعاب، وتخصص؛ فليس بمقدور كل أحد أن يشمر عن ذراعه وينهض بهذه المهمة، مهما بلغ ذلك الشخص من المام باللغتين: لغة التأليف ولغة الترجمة. فما أكثر أولئك الذين لديهم تمكن من لغة أخرى إضافة إلى لغتهم الأُم، الا انهم يعجزون عن ترجمة نص من وإلى هاتين اللغتين، بالمواصفات الفنية التي لابد من توفرها في النص المترجم. بعبارة أخرى ليس بامكان كل من يلم بلغتين أن يترجم، لأنّ الترجمة لا تعني مجرد الالمام باللغتين، وان كان هذا الالمام عنصراً مهمّاً عن عناصر الترجمة، وانما هناك عناصر أخرى لابدّ من توفرها في المترجم كي يكون مترجماً وفي مقدمتها، أن يكون المترجم مؤلفاً أيضاً، أي ان تكون لديه القابلية على الكتابة والتأليف قبل أن تكون لديه القابلية على الترجمة. فالمترجم الناجح هو المؤلف الناجح وليس بمقدور المترجم الذي لا يمتلك القدرة على التأليف، أو ليس لديه تجربة تأليفية، أن ينجز ترجمة ناجحة، أو ان تسفر ممارسته للترجمة عن إعمال ترجمة ناجحة، فالمؤلف المل بلغة الترجمة ولغة المؤلف الذي يترجم له، بامكانه أن ينجح في حقل الترجمة، إذا توفرت لديه باقي الشروط الأخرى التي أشرنا إلى شيء منها ضمن هذا المقال.

ارسال التعليق

Top