• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التلميذ المثالي

بنت العراق

التلميذ المثالي

بقدر فرحتها بأمر تعيينها، أحزنها أنها ستباشر في مدرسة شعبية بعيدة.. لقد اعتادت على مدرستها الأنموذجية التي مارست فيها التعليم لمدّة عامين بعقد، إلّا أنّ استحالة نقلها إلى مدرسة أخرى جعلها تقر بالواقع وتذهب راغمة إلى مدرستها.

وهكذا، فإنّ اليوم الأوّل ضاعف إحباطها وأصابها الصداع.. فقد راعها منظر التلاميذ.. وعددهم المزدحم.. وملابسهم الملونة وشعرهم المتلبد وأكفهم الخشنة.. إحساسها بالفشل جعلها تائهة أكثر.. فاسترجعت خبرتها وشحذت إرادتها وشدّت همتها.

ومن ثمّ قررت أن تصنع صفها الأنموذجي الخاص.. وراحت تملي على تلامذتها أوامرها الصارمة.. شعر مقصوص.. أكف نظيفة.. قميص ابيض وربطة عنق حمراء وبنطال أسود أو أزرق.. بدا الأمر سهلاً إلّا أنه استغرق شهراً ونصف الشهر حتى تنفذ وذلك بين الترغيب والترهيب.. كانت تصفق يومياً لمن نفذ الأوامر، بينما يذهب المخالف ليواجه عصا المدير.. وأخيراً، وقفت أمام تلاميذ مرتبين يرتدون قمصاناً بيضاء.. تنفست الصعداء.. لقد حققت نجاحها الأوّل.. وفرحت كثيراً بهذا الإنجاز وهكذا راحت تتقدم ببطء في صناعة صفها.. كانت ترسم للحصول على تلامذة مهذبين، مجدين، مرتبين، وباختصار مثاليين.

المحاسبة على التحضير اليومي، النظافة، النظام.. كانت تبذل جهداً فوق المعتاد؛ ولكن ثمار هذا الجهد تستحق.. فقد راقها رؤية تلاميذها في التجمع الصباحي مرتبين يسيرون بانتظام؛ لكن لازالت هناك عقبات وعقبات ومن أسوأها كان سعد (اسم على غير مُسمّى) قابعاً في طريقها كصخرة لا تتزحزح، متسخاً، كسولاً، منزوياً، في ركن الصف، مرتدياً بلوزة حمراء أكبر من حجمه، غير آبه أبداً بأوامرها الصارمة ولا يؤذي مشاعره توبيخها، بل لقد ألفت راحته عصا المدير حتى لم يعد ذلك ينفع في شيء.

حاولت معه كلّ الوسائل ومارست معه مختلف الضغوط، إلّا أنّ تمرده الصامت تغلب على خبرتها، وأساليبها.. كان لا يكتب الواجب، ويدّعي أنه لا يعرف القراءة، وعلاماته في الإملاء.. صفر دائماً!! فهو يعطيها الدفتر خالياً قائلاً: "لا أعرف أن أكتب"!! وهكذا قضى معظم أوقاته في صفها موبخاً معاقباً، واقفاً طوال الدرس، كما جعلته مثالاً للتلميذ المهمل.. أمام سعد تبعثرت كلّ ما ادخرته من خبرات، وما حفظته من كتب علم النفس من أساليب.. استدعت أبويه أكثر من مرّة دون جدوى.

متقوقعاً داخل عالمه الخاص، جالساً بين تلامذتها.. أرهقها بسوء تصرفاته ومخالفته لتعليمها، ولا تستطيع تركه وشأنه، لأنه بسلوكه وإهماله يزلزل سيطرتها على الصف ويبيح للتلاميذ التمرد على سلطتها وقوانينها.

وهكذا أرهقها ضغطها عليه وتمنّت لو تسبر غوره وسر عناده.. كان على قدر من الذكاء، فهو ليس بليداً.. يمكنه أن يتحسّن؛ ولكنه يتصرّف وكأنه يتحدّاها وهذا ما لا تطيقه.. وسأمت من كلّ ذلك ومرّ نصف العام، واعتادت عليه.. تركته في ركن منزوٍ كأنه غير موجود.. تجاهلته تماماً ولم تعد توبخه وانشغلت بأمور أخرى وهو بهذا ارتاح كثيراً، فلم يعد يشاكس أو يظهر أي تصرف.. كان يمكن أن يكون نهاية حكمها عليه (مهمل، فاشل، راسب، لا فائدة منه) لولا مرورها في يوم وسط السوق في طريقها إلى المدرسة كانت تتحدّث مع زميلتها، ووسط الزحمة وتعالي الأصوات، سمعت صوتاً مألوفاً يروح لبضاعة ما.. التفتت.. التقت عيناها بعينه.. أشاح بوجهه سريعاً وبان في عينيه انكسار.. دققت النظر أنه هو! (سعد) بملابس رثة يقف وسط الزحام يدفع عربة خشبية بالكاد أنامله الصغيرة تلف قبضتها. وليقي بثقل جسمه النحيل كلّه لدفعها.. بقيت تتابعه بنظراتها بينما أسرع مبتعداً..

لماذا على طفل صغير أن يحمل عبء رجل بالغ؟ يخالط مَنْ هم أكبر سناً؟ يتعلَّم أشياء أكبر من عمره؟ يواجه متاعب السوق والعمل وهو لا يزال طري العود؟ ويتزاحم مع الكبار بحثاً عن الرزق ولقمة العيش؟

وتألّمت كثيراً كونها أسهمت في قتل طفولته وخنق براءته وأحزنها أنها أرادت أن تخلق طفلاً مثالياً في عالم مرير قاس فزادت حياته مرارة وظلماً..

وحزّ في نفسها أكثر أنها كانت تعاقبه لسوء تصرفه، بينما هو لا يعرف حقّاً إلّا ما تعلمه في السوق وبين الكبار..

صورته بهذا الحال رافقت مخيلتها أوقاتاً طويلة.. وأدركت يومها أنها فشلت.. وإنْ أقرّ لها الجميع بالنجاح.

 

ارسال التعليق

Top