• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الثقافة طريقة حياة

عمار كاظم

الثقافة طريقة حياة

 لابدّ أوّلاً من التمييز بين ثقافتين: ثقافة خاصّة وثقافة عامّة، المراد بـ(الثقافة الخاصّة) هو تنمية بعض الملكات العقليّة والبدنيّة، أي تموين العقل بالثقافة الفكرية أو الأدبية أو القيمية، وتثقيف البدن بالثقافة الصحية أو الرياضيّة، وتثقيف النفس بالثقافة التربوية والروحية. وبالتالي، فإنّ الثقافة هي المزايا العقلية التي أكسبنا إيّاها العلم بحيث أصبحت أحكامُنا صادقة، وعواطفُنا مهذّبة، وسلوكنا قويماً. أمّا الثقافة بالمعنى العام، فهي التي تقاس بآثارها الخارجية والمترتبات عليها، أي ما تتصف به من ذوق، وحسّ انتقاديّ، وحكم صائب صحيح، وكما أنّ (العلم) هو الذي أدّى إلى إكسابك الثقافة الخاصّة، فإنّ (التربية) هي التي تؤدِّي إلى تزويدك بالصفات أو المهارات العمليّة، ومن هنا كانت التربية قرينة التعليم، والتعليمُ رفيقَ التربية، فهما متلازمان. ومن شروط الثقافة العمليّة التي تقوم على الممارسة والمزاولة والتطبيق، أن تؤدِّي إلى الموائمة بينك وبين (الطبيعة)، وبينك وبين (المجتمع)، وبينك وبين (القيم الروحية الإنسانية).. وبمعنى آخر أنّها تحوّل الثقافة الفكرية من (القوّة) كمخزون، إلى (الفعل) كطاقة محررة في أفعال خارجيّة، وممارسات سلوكيّة. ولابدّ إلى هذا وذاك أن لا نُقلِّل من شأن الثقافة العقلية أو الخاصّة. ونحن نتحدّث باهتمام عن الثقافة العملية، فلا غنى للثقافة العملية عن الثقافة العقلية أو الروحية أو النفسية، بل هي تستقي منها، وتعتمد عليها، وتتحرّك بتوجيهاتها، وتلتزم وتُنفِّذ أوامرها، أي أنّ الثقافة العملية ليست ثقافةً في مقابل ثقافة، أو هي ثقافة مستقلة، هي الوجه العملي أو الإجرائي أو التنفيذي للثقافة العقلية.. هما وجهان لعملة واحدة: ثقافة ذاتيّة وأخرى موضوعيّة، ومن ملتقى أو مجموع الثقافتين تستطيع أن تتحسَّس قيمة العادات والأوضاع الاجتماعية، والآثار الفكرية، والأساليب الفنّية، والنتاجات الأدبية، والطرق العلمية، والتقنية، وأنماط التفكير، والإحساس، والقيم الذائعة في مجتمع معيّن. الثقافة إذاً هي طريقةُ حياة، ومنهج عمل وسلوك، هي الشخصية، ولنمثل لذلك بمثل، فالثقافة الصحيّة هي أن يكون لديك معلومات عامّة في الغذاء والدواء، وطرق المعالجة، لا على نحو التخصّص والخبرة، فتلك مهمّة الطبيب، بل على نحو الإلمام العام، سواء تلقّيت ذلك من خلال كتيب أو نشرة في الثقافة الصحية، أو استمعت إليه في ندوة تلفزيونية، أو اطّلعت عليه من خلال مجلة أو موقع على الشبكة الإلكترونية (الإنترنت)، أو عن طريق الاطلاع على تجربة صحية ناجحة ومجربة من قبل شخص أو عدّة أشخاص. إنّ مجرّد حصولك على تلك المعلومات والتثقف بها لا يحوّلها إلى ثقافة صحية عملية.. اللّهمّ إلّا إذا قرَّرت أن تستعملها في وقت الحاجة إليها، عندها تتحوّل (المعلومة) إلى (طاقة)، (الثقافة) إلى (سلوك) أي تصبح النصائح والتعليمات الصحيّة وكأنها انطلقت من داخلك: أنت الذي فكّرت بها، وأنت الذي أعطيت الإيعاز لأعضائك للتفاعل معها والعمل بها. فالثقافة هنا بمثابة الزاد أو الغذاء غير المُمثَّل أو المهضوم والمتحوّل إلى طاقة يستعين بها الجسد على قضاء حوائجها، هي أشبه بكتاب على الرفّ. أمّا عندما تستدعيها لتوظفها في موقف حياتي معيّن، فإنّها تتجلّى، وتتجسّد، وتنبعث فيها الحياة لتكون هي (أنت) بعدما كانت شيئاً آخر غيرك. وعلى ضوء هذا البيان، يمكن القول بأنّ لكلِّ شيء ثقافة، فقدرتك على تصليح بعض الأعطال البسيطة في سيارتك ثقافة، لأنّها تعني أنّك تملك ثقافة ميكانيكية ولو أوّلية، وإلمامك بالإسعافات الأوّلية، ثقافة.. تحتاجها عندما يتطلّب الموقف إجراءً سريعاً قبل نقل المصاب أو المريض إلى الطبيب أو المستشفى، وقدرتك على تزيين البيت بأثاث بسيط معبّر عن ذوق وزينة متواضعة تنمّ عن روح جميلة، تكشف عن أنّك صاحب ثقافة ذوقيّة، أو جماليّة، تلقّيتها من مصادر متعددة، أو تراكمت لديك بالخبرة، وأضفت عليها لمسات من ذوقك الفني وإحساسك المرهف، وهذا يعني أنّ الثقافة العمليّة تتأتّى بالمران والممارسة ومحاولة تطبيق ما تعلّمت، ممّا يُشكِّل بحدّ ذاته ثقافة جديدة تضاف إلى ما لديك من رصيد ثقافي انطلاقاً من قاعدة حياتيّة عمليّة مجرّبة لدى جميع الشعوب بلا استثناء، وهي أنّ الممارسة تخلق الكمال، والتمرين يوجب الإتقان، والتجربة تزيد الخبرة وتصقل الملكات. والثقافة العمليّة شأنها شأن أي ثقافة أخرى، تبدأ خطوطاً فكرية، وتعليمات، وتوجيهات، وقراءة في التجارب، لتعبِّر عن نفسها لاحقاً في المواقف العملية، تعبيراً ينمّ عن أنك إنسان مثقّف تجيد التعبير عن ثقافتك بشكل عملي.

ارسال التعليق

Top