يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/ 18). تخاطب هذه الآية المؤمنين، وتؤكّد لهم أنّ الإنسان المؤمن لابدّ من أن ينطلق من خلال التقوى التي تجعله يعيش حضور الله سبحانه وتعالى في عقله وقلبه وحياته، بحيث يتحسس وجود الله سبحانه وتعالى، كما ورد في بعض الأحاديث: "خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك"... أن يشعر الإنسان بمراقبة الله سبحانه وتعالى عليه؛ رقابة تنفذ إلى داخل عقله لتتابع حركة عقلهِ فيما ينتجهُ العقل، وتنفذ إلى داخل قلبه لتلاحق نبضاته وخفقاتهِ في حركته العاطفية، ولتتابع حياته بكلّ ما فيه من مفرداتٍ تتصل بحياته على المستويين الفردي والاجتماعي. كما يريد هذا النداء أن يستثير في المؤمنين ما تختزنهُ نفوسهم من الانفتاح على الله سبحانه وتعالى في حضوره الدائم في الكون، بحيث يتمثلهُ المؤمن في كلّ وجوده. وعلى ضوء هذا، فإنّ الإنسان عندما يتصور معنى الربوبية التي تهيمن على الأمور كلّها، ومعنى الخالقية التي منحتهُ كلّ وجوده، ومعنى الجبروت الإلهي؛ فإنّ ذلك يجعله يخشى ربّه في كلّ حياته، فينطلق ليتقي الله ويطيعه فيما أمره به وفيما نهاهُ عنه. وقد ورد في تعريف التقوى: "أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك". وهذا الأمر بالتقوى، ينسحب على ما سلف من أمور الناس، ليدرسوا كلّ ما فعلوه وكلّ ما عاشوه، دراسة دقيقة عميقة تركز على مواقع المسؤولية؛ هل أطاعوا الله في ما أسلفوا، أم هل عصوه في ذلك؟ وما الذي هيأوه لأنفسهم فيما يقبلون عليه عندما يعرضون على الله (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 6)، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) (النحل/ 111)، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الإنفطار/ 19)؟! وقوله تعالى: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/ 18)، هو الذي يبيّن أنّ دراسة الماضي إنّما ترتكز على عالم المسؤوليّة؛ لأنّ الله أراد للإنسان، في يوم القيامة، أن يقدّم بين يديه كلّ حياته، بكلّ سلبياتها وإيجابياتها، في كلّ نقاط ضعفها ونقاط قوتها، بقدر ما يتصل الأمر بمسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى في ذلك كلّه. وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نستوحي من الفقرة – (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) – أن لا يكتفي الإنسان بالنظر فيما قدمه، بل أن يحاول في موقفه هذا – من خلال حركة التقوى في نفسه – أن ينظر إلى ما قدمه من عمل؛ فإن كان خيراً، حمد الله على ذلك واستزاده التوفيق لأمثاله، وإن كان شراً، استغفر الله في ذلك. وهذه هي الرؤية التي تؤكد عملية الحساب الدائم للإنسان. وقد ورد في أكثر من حديث، أنّ على الإنسان أن يكون واعياً لنفسه في كلّ أعماله وأفعاله وعلاقاته، حيث يقوم بعملية محاسبة نفسه على كلّ ذلك. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19). تؤكّد هذه الآية أنّ على الإنسان أن يكون ذاكراً لله، لا بأن يردد اسمه في لسانه فقط، ولكن أن يكون ذاكراً له، بحيث يشعر بنوره سبحانه وتعالى، وبربوبيته، وبمسؤوليته أمامه، ويشعر بمراقبة الله له، وبحسابه له في المستقبل عندما يقوم الناس لربّ العالمين. ولذلك، فالإنسان إذا ذكر الله ذكر نفسه، وذكر ما يصلحها ويحقق لها سلامة المصير عند الله سبحانه وتعالى، وذكر محبة الله له في ذلك كلّه، وبذلك يستطيع أن يصلح أمره؛ لأنّه يشعر بأنّ عليه أن يرضي الله سبحانه وتعالى في كلّ أعماله، وفي كلّ أقوله، وفي كلّ علاقاته. أما إذا نسي الله سبحانه وتعالى ولم يذكره، لا في عقله، ولا في قلبه، ولا في حركة حياته، بل استسلم لشيطانه وهوى نفسه، فإنّ ذلك سوف يجعله يتخبّط في الظلمات، ويتحرك في كلّ ما يقوده إليه هوى نفسه التي تأمره بالسوء، وبذلك يفقد نفسه، ويفقد الخط المستقيم الذي أراده الله أن يسير عليه. وقد ورد في بعض الآيات: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا) (طه/ 125-126)، من خلال نسيان الله سبحانه (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 126). ثمّ يؤكد الله سبحانه وتعالى، أنّ على الإنسان أن يعرف أنّ هناك طريقين: الطريق الذي يؤدي إلى الجنة، والطريق الذي يؤدي إلى النار، وأنّ عليه أن يختار طريق الجنة باختياره طريق التقوى، والانفتاح على الله، والإحساس بحضوره وبمسؤوليته أمامه، ورفضه طريق النار الذي ينطلق من خلال نسيان الله ونسيان مسؤوليته. فعلى الإنسان أن يختار ما يؤكد له الفوز في الآخرة؛ لأنّ الذين يدخلون النار هم الخاسرون والفاسقون الذين انصرفوا عن طريق الله وتجاوزوا حدوده.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق