• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الشعر الحر والبعد النقدي

د. عبدالحسين عواد

الشعر الحر والبعد النقدي

◄نبغ في ميادين الشعر الحر جيل اثقلته متطلبات الحياة، وبهضت أرواح أبنائه سبل الحرمان، وبانت على وجوههم معالم الحسرة والانكسار، كانت قلوب المؤسسين لحركة الشعر الحر مغمورة بالغربة وهم بين أهلهم وذويهم، وأرواحهم يلبدها الظلام وهم في وضح النار وضوئه، واحساساتهم تواقة للمس معالم العدل والإنصاف، فوجدوا من حرية التعبير في نظم الشعر الحر منطلقاً لتصوير ما يعانون منه، فنظموا أفكارهم في تعبيرات فيها من الغموض والفوضى الفنية ما تجنبوا به بطش رجال السلطة بهم آنذاك، فاعتمدوا التعميم كأسس لصور شعرهم، وتحدثوا عن تجاربهم الفنية من خلف الأقنعة وبإيماءات الرموز، فتحدثوا عن رجال التاريخ ممن جاد بنفسه لمواجهة الظلم، واسهبوا في رسم معالم الشخصيات التاريخية وتحدثوا عما ينبغي لرجال عصرهم مما استمت به رجالات التاريخ.

وتحاشيا لمن كان يرقب أنفاسهم من رجال السلطة اخذوا من مسميات الأساطير وسيلة للتلميح بأفكارهم وآرائهم، ومن ظواهر الطبيعة وسيلة للتلويح بشكواهم وحسراتهم.

لن يستمر شاعر الشعر الحر الناقد طويلاً بستره وغموض نقده لسلبيات عصره، وإنما أخذ يعلن ضرورة مكافحة ما يجرح الإنسانية بالاستنكار واعلان التمرد عليه، بل بالتضحية لردعه بالنفس والوجود، ففي التضحية يتم الإصلاح وبها يكون النقد، "انّ الاحتراق يفني عوامل الانحلال، وتنهض الأشياء على رمادها المحترق لتخلد عوامل نمو الحياة".

 

النقد ومفهوم التضحية:

إنّ البعد النقدي في مفهوم التضحية في الشعر الحرّ يكشف القصد من أسطورة "الفداء"، والتي كثر استخدامها في شعر مؤسسيه والمبدعين في فنونه الناقدة، باعتبارها توحي الجهد الذي يستهدف به الشاعر اقامة التوازن بين المتناقضات، انّ التضحية هي شعار الشاعر الحر للرفض والنقد، وبها يتحقق حلمه برفض الواقع الفاسد الذي يقود بالإنسانية يوماً بعد يوم إلى مستنقع الحضيض ولعل الشاعر بدر شاكر السياب أكثر الشعراء في المرحلة التأسيسية للشعر الحر اتخذ "التضحية" شعاراً للنقد ووسيلة للاصلاح.

انّ "التضحية" كانت مشكلة السياب وحلمه وأسطورته الصغيرة التي كان يرى عبره ابتداءه في انتهائه، محاولاً في ذلك تحقيق التوازن والانسجام بين متناقضات الحياة التي يراها، والمتناقضات التي يتوقعها قادمة بمقتضيات الحياة الحديثة، فاستعمال الأساطير المنطوية على التضحية في تعبيرات فنون الشعر الناقد عند السياب هو تنبيه منه إلى الموقف الذي يجمع فيه الإنسان شتات ذاته ويوحد بين متناقضات عالمه، مستعيداً بذلك حالة التجانس التي افتقدها، ومواجها وحدته ازاء العالم الذي أصبح لا يأبه له ولا يكترث لوجوده فيه، كان السياب صارخاً في شعره الناقد بمبدأ التضحية، فهي التي تطهر الإنسانية مما دنسها، وهي التي تجعل الإنسان كالنهر، كالماء يولد من ذاته. تميز السياب عن المؤسسين لحركة الشعر الحر بتأصيله الأسس الأولى لمضامين فن النقد في هذا التعبير الشعري.

إنّ مبدأ "التضحية" وما يتعلق بتصويرها من خلال التعبير عن دماء المظلومين، أصبح عند السياب في المراحل التالية للشعر الحر يمثل دم المسيح، والموت الفردي هو معجزة تحقيق البعث من جديد والكمال والتوافق في الحياة، وقد يظهر هذا التطبيق جليا في المرحلة الثانية من مراحل تطور الشعر الحر، خاصة في قصائد السياب التي نشرها بعناوين: "المسيح بعد الصلب" و"النهر والموت" و"رؤيا فوكاي" و"مرثية الآلة" وأغلب قصائده "التموزية" والأسطورية، ولعل هذا هو الذي جعل السياب المع الشعراء الذين برعوا في تأصيل وتطبيق أسس ومعايير الشعر الحر المبدع. ►

ارسال التعليق

Top