• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الطريق نحو الله

عباس آل حميد

الطريق نحو الله

◄عن الإمام عليّ زين العابدين (ع): «اللّهُمّ إنّي أجدُ سُبُلَ المطالِبِ إليك مُشرَعَةٌ.. وأعلَمُ أنّك للرَّاجي بمَوضِعِ إجابةٍ.. وأنّ الراحِلَ إليك قريبً المسافةِ، وأنّك لا تَحتَجِبُ عن خَلقِك إلّا أن تحجُبَهمُ الأعمالُ دُونَك» (دعاء أبي حمزة الثمالي).

إنّ الطريق نحو الله لا ينتهي، وكلّما مشيت فيه ستشعر أنّك في بداية الطريق، بل وربّما تشعر أنّك لم تسلك الطريق بعد، غير أنّك بمرور الوقت تبدأ تشعر قليلاً قليلاً بالهدوء، والسكينة تسري إلى أعماقك، وتبدأ الأصوات وضجيج الدُّنيا الذي ألفته من حولك يهدأ، وتبدأ ذاتك تعطيك أفضل ما عندها، ثمّ تبدأ تشعر بالسعادة والقوّة والحبّ والاطمئنان يتفجر من أعماقك، وهنا لا تعود ترى غير الله أمامك، بل حتى ولا تفكر في السعادة التي أصبحت تشعر بها، وترغب في أنّك تستبدلها بنظرة حبٍّ ورضىً منه عزّ شأنه.. كلّ هذا وأنت لازلت في بداية طريقك، فما بالك لو أنّك واصلت سيرك، وقطعت شوطاً فيه؟

لست الشخص المناسب للتحدث عن طريق الله؛ ولكنّي سأحاول وصفه بما تمكنني إيّاه معرفتي المحدودة والناقصة؛ ولكن قبل ذلك سأتناول المثال الدُّنيوي التالي:

ربّما يكون مستوى الراحة واللذة التي يمنحنا إيّاها ألف ريالٍ شهرياً يفوق بعشرة أضعافٍ مستوى الراحة واللذّة التي يمنحنا إيّاها مائة ريالٍ شهرياً؛ ولكنّ بعد ذلك تبدأ المنفعة الحدية (مستوى زيادة الراحة واللذّة) تتناقص لكلّ ريالٍ نكتسبه فوق الألف ريالٍ إلى أن تصبح صفراً عند رقم معيّن (ولنفترض أنّه عشرة آلاف ريالٍ شهرياً) وبعدها لا يزيد مستوى استمتاعنا ولذّتنا بازدياد حجم مدخولنا.

وبعبارةٍ أُخرى، مَن يتقاضى نصف مليون شهرياً يكاد يكون حجم استمتاعه ولذّته الحقيقية نفس مقدار استمتاعه ولذّته عندما كان يتقاضى خمسين ألفاً.

هذا هو حال نِعَم الدُّنيا؛ ولكنّ الأمر ليس كذلك فيما يتعلّق بالقرب من الله، فليس هناك من سقفٍ أو حدٍّ لمقدار الاستمتاع بالقرب من الله، والمنفعة الحدّية لزيادة القرب منه تتعاظم بدلاً من أن تتناقص.. فمن وصل لمستوى الترليون مثلاً يستمتع براحةٍ ولذّةٍ تفوق أكثر بكثيرٍ من ألف مرّةٍ بالمقارنة مع مَن وصل مستوى المليار.

ليس هناك من إنسانٍ، مُسلِماً كان أو كافراً، بل ليس هناك من موجودٍ إلّا وهو يسير على هذا الخطّ صعوداً أو نزولاً، شاء أم أبى، فهذه الحركة نحو الله هي حركةٌ تكوينيةٌ طبيعيةٌ، وعليه فما نعنيه نحن هنا بـ«السير نحو الله» هو قصد السير نحوه والقرب منه، وطلب رضاه سبحانه وتعالى، وبذل الجهد في سبيل ذلك.

إنّ خطّ الصعود نحو الله خطٌّ مستمرٌّ إلى ما لا نهاية، غير أنّ هناك محطاتٍ على هذا الخطّ كلّما وصلت لواحدةٍ منها ستشعر بتطوّرٍ نوعيٍّ في داخلك وستتطوّر تبعاً له رؤيتك للحياة، وستتطوّر نوعية اللذّة والسعادة التي ستشعر بها.

إنّ هذا الخطّ المستمر نحو الله بمحطاته المختلفة ينقسم - حسب فهمي القاصر - إلى مرحلتين أساسيتين، هما:

المرحلة الأُولى من السير فيها حركةٌ كميةٌ وكيفيةٌ نحو الله، فنحن نجاهد فيها أنفُسنا، ونكتسب المعارف والأخلاق الفاضلة والقدرات والمَلكات، ونزهد في الدُّنيا بكلّ ما فيها، ونبذل الجهد للالتزام بالدِّين، والاستشعار بالله والارتباط بأولياء الله الصالحين والعلماء، ونسعى بكلّ كياننا ووجودنا إلى طلب رِضا الله عزّوجلّ حتى يصبح هو غاية مرادنا في الحياة.

في هذه المرحلة يحدث ما ذكرته آنفاً من أنّه بمرور الوقت تبدأ تشعر تدريجياً بالهدوء والسكينة تسري إلى أعماقك، وتبدأ الأصوات وضجيج الدُّنيا الذي ألفته من حولك يهدأ، وتبدأ ذاتك تعطيك أفضل ما عندها، ثمّ تبدأ تشعر بالسعادة والقوّة والحبّ والاطمئنان يتفجّر من أعماقك، وهنا لا تعود ترى غير الله أمامك، بل حتى لا تفكر في السعادة التي أصبحت تشعر بها، وترغب في أنّك تستبدلها بنظرة حبٍّ ورضىً منه، فيمنحك جلّ جلاله إيّاها؛ ولكن بقدرٍ لكي لا تحترق بنور الحبّ، غير أنّ هذه النظرة تجذبك إليه، فلا تعود الدُّنيا بكلّ مباهجها أو مصائبها تعني لك شيئاً، وتبدأ تشعر بالعذاب من كلّ لحظة تضيعها في غير رِضا المحبوب، وتتلوى لذلك؛ ولكن هذا العذاب هو أجمل وأروع وأرقى من كلّ شعور يمكن أن تشعر به في عالم الدُّنيا.

وعندما تستقر لديك هذه الحالة، وتصبح ذاتيةً فيك، فلا ترى جنّةً ولا ناراً ولا سعادةً ولا شقاءً، ولا ترى سوى وجهه الكريم، عندها تكون قد قطعت المرحلة الأُولى، وهنا تبدأ المرحلة الثانية، مرحلة العروج نحو الله، حيث لا توجد هناك حركةٌ كمّيةٌ نحوه سبحانه، وإنّما هي حركةٌ كيفيةٌ قلبيةٌ نحوه سبحانه تعالى، وفي هذه المرحلة يتمايز الأنبياء والمعصومون بعضهم عن بعض: (تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلنا بَعضَهُم على بَعضٍ مِنهُم مَن كَلَّمَ اللهُ ورَفَعَ بَعضَهُم دَرَجاتٍ) (البقرة/ 253).

ليس هناك من مجاهدة في هذه المرحلة حسبما نفهمه في عالم الدُّنيا، لأنّه ليس هناك غير الله في قلبك وعقلك بالمرّة، وإنّما يتحدّد سيرك نحو الله سبحانه وتعالى بقوّة عشقك له سبحانه وقدرتك على قبول جذبه لك.

لنفهم هذه المرحلة الثانية، فلنتأمّل مرّةً أُخرى ما نقله مستدرك الصحيحين، عن قول الرسول (ص) أنّ مبارزة عليّ (ع) يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة.

فإنّ عمل الإمام عليّ (ع) نفسه هو عمل شبه عادي يمكن لكثير من المؤمنين القيام به؛ ولكن ما يجعله مختلفاً ويفوق فضلاً أعمال أُمّة محمّد (ص) كلّها إلى يوم القيامة، هو النيّة والعمق والعشق الذي اكتنف هذه الضربة.►

 

المصدر: كتاب النفس المطمئنة.. خطوات عملية لتحقيق السعادة والنجاح

ارسال التعليق

Top