• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبوديـة في حياتنا

أسرة البلاغ

العبوديـة في حياتنا

◄في هذا الموضوع، نركز على الآثار العملية للعبودية في حياة الإنسان بما ياتي:

1-    الأثر النفسي لمفهوم العبودية: لم يكن مفهوم العبودية مفهوماً نظرياً مجرداً يقتنع به الفكر ويستجيب له العقل دون أن تكون له آثار نفسية وأخلاقية تعمل على تطهير وجدان الفرد وتغيير محتواه الداخلي، وتنمية ملكاته الأخلاقية الباطنة. فالإنسان عندما يكتشف الحقيقة الكبرى في حياته – حقيقة العبودية والارتباط بالمبدأ الكامل – ويتجه نحوه بدوافع الخوف والرجاء، أو ينشد إليه بمشاعر الحب والشوق، يظل يبني كلّ تصوراته وأحاسيسه وعواطفه، ومفردات سلوكه على أساس تلك القواعد النفسية، ومن هذه الحقيقة الكبرى "العبودية" التي أدرك وجودها وشاهد آثارها المتجلية في نفسه وفي عالمه، انطلق ، فاتخذ من مبدأ الحق (الله) معبوداً يأله إليه (1)[1] ووجوداً يتجه نحوه، ومعبوداً يدين بالتقديس والتعظيم والحب الأوحد له، فتنتج كلّ هذه الأحاسيس والتوجهات النفسية آثار تكاملية وحقائق بنائية تؤدي دورها في أعماق الذات، كما تعمل على إعطاء هيكل السلوك صيغته وطابعه الخاص به ومن جملة الآثار النفسية التي يحدثها الاتجاه العبودي الأحدي نحو الله هو إنقاذ الشخصية من التوزع والانقسام والاثنينية وتخليصها من القلق والشك والتردد ، بسبب وحدة الاختيار والنوازع والاتجاه. لأن المؤمن الذي أخلص العبودية لله يسير باتجاه نفسي موحد، ويعيش تماسكاً داخلياً لا تناقض فيه، ولا قلق، لأنه لا يعيش موزعاً بين عدة اتجاهات واختيارات متناقضة، بل يعيش اتجاهاً واحداً وغاية واحدة، في آن واحد، وهي العبودية لله، فتمتد في نفسه آفاق إنسانية متعالية، وتنمو في أعماقه اتجاهات غائية متسامية، فيملأ حب الخير قلبه، وتتجسد الاستقامة في سلوكه. فيعيش في نضال دائم وشوق متواصل من أجل الاتجاه نحو صفات المعبود وآثار وجوده، كالعدل والرحمة والإحسان والتواضع والصدق والعفو، الخ... وتسامي هذه الخصائص والملكات الإنسانية في نفس الإنسان المؤمن، ينمي فيها نزعة الاشمئزاز من الشر والرذيلة، لأنها لا تتطابق وصفات المعبود ورضاه، فينفر من الظلم والشرك والتكبر والغرور والجشع والرياء والخيانة والقسوة الخ... وهكذا ترك العبودية آثارها التغييرية والتكاملية في نفس الإنسان المؤمن ووعيه .

 

2-    الأثر الاجتماعي لمفهوم العبودية: للعبودية آثار اجتماعية وأخلاقية مهمة تنعكس على حياة المجتمع البشري وتؤثر على علاقاته الإنسانية المختلفة. فالشعور بالعبودية لله ينقذ الإنسان من الخضوع لإرادة الطغاة والمستبدين، والشعور بها يحرر الإنسان من الشهوات ومن سيطرة حب المال وجمعه، وتكديسه، وتسخير الآخرين وظلمهم واستغلالهم من أجل هذا المعبود الزائل، والشعور بعبودية الله يحرر الناس من الصراعات والمآسي، التي يعيشونها من أجل الاستعلاء والتحكم والمكاسب المختلفة الزائلة، والشعور بالعبودية لله يشعر الإنسان بالمساواة والعدل بين الناس، لأنهم جميعاً متساوون في صفة العبودية لله.   لذا فإن المجتمع الذي تخلص فيه العبودية لله لا يجد الناس فيه غاية في الحياة غير الله، ولا يملأ آفاق نفوسهم شيء غير العبودية لله، فيحطم الناس أصنام العبودية المختلفة، صنم المال والشهوة والجاه، والسلطة والكبرياء، الخ... فيكونوا أحراراً كما خلقوا.. وكما أراد لهم خالقهم العظيم .

 

3-     الآثار المدنية لمفهوم العبودية: "وَإلى ثمُودَ أخَاهُمْ صَالِحاً قالَ يَا قوْم اعبُدوا اللهَ مَالكمْ مِن إلهٍ غيْرَهُ هُوَ أنشأكمْ مِنَ الأرْض وَاسْتعمَرَكمْ فِيهَا، فاسْتغفِرُوهُ ثمّ توبُوا إليهِ، إنّ رَبّي قريبٌ مُجيب" (هود/60).  الآية الكريمة الآنفة الذكر توضح بجلاء أن دور الإنسان في هذه الأرض هو أعمارها وإصلاحها وملؤها بالحياة والنشاط والعمران والمدنية. فالإنسان عندما يمارس نشاطه المدني من علم واختراع وزراعة وصناعة وعمران، إنما يحقق رسالته الأولى في الحياة، وهي أعمار الأرض وإصلاحها ويعبر عن وظيفته، ودوره العبودي في هذه الأرض، والإنسان المؤمن يدرك هذه الحقيقة ويندفع باتجاهها ليحقق مظهراً سلوكياً من مظاهر عبوديتة لله في هذه الأرض، فيملأها بالحياة والنشاط والعمران .

    وفي نهاية موضوعنا لمفهوم العبودية نستنتج أن العبودية لله: هي جوهر الدين .

    وهي الطريق إلى التكامل النفسي والسلوكي في الحياة .

    وهي الطريق إلى التحرر من كلّ العبوديات والأصنام والبشرية.

    وهي الطريق إلى التوافق والانسجام مع صيغة هذا العالم في وحدة وجودية رائعة .

    وهي الطريق إلى المدنية والعمران والإصلاح .

    وهي الطريق إلى السعادة والحياة الاجتماعية المستقرة .. وحصيلتها الفوز بمرضاة الله وجنانه.►


[1] يأله إليه: يشتاق إليه، ويهيم بحبه، ولذلك سمي الإله إله .

ارسال التعليق

Top