◄مع تزايد تعقيدات المجتمع الحديث، خصوصاً في عالمنا العربي، وما أفضت إليه من ضغوط نفسية على الأفراد، ارتفعت نسب تعرض الأفراد لأزمات نفسية، تتراوح ما بين الاكتئاب والتغيرات المزاجية وتفاقمها، إلى حالات أكثر قسوة، وهو ما يجعلنا نحاول البحث عن سُبل العلاج المختلفة الهادفة إلى تجاوز أزماتنا النفسية وآلامنا الجسدية. وبالإضافة إلى وسائل وسُبل العلاج التقليدية المتوافرة لدى المتخصصين من المعالجين النفسيين وأخصاء الطب النفسي، هناك اليوم طفرة جديدة تحاول الاستعانة بوسائل غير تقليدية لعلاج الاضطرابات المزاجية والنفسية والسلوكية التي يعانيها الإنسان المعاصر.
يقول الطبيب النفسي فريتز بيرلز: "إنّ أصح شكل من أشكال الإسقاط النفسي هو الفن". ويقول الرسام الشهير بيكاسو: "الفن وسيلة لغسل الروح من تراب الحياة اليومية". السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا هو: هل يمكننا بالفعل استخدام الفن وسيلة علاجية ليس لها آثار جانبية؟ والإجابة بكلّ تأكيد: نعم.
في البدء كان الإبداع وسيلة الإنسان الأولى لاكتشاف الذات والتعبير عنها، والطريقة التي استخدمها لتدوين مفردات حياته البسيطة وملامح حضارته العريقة. لذا صارت أعماله جزءاً من تاريخ البشرية الفطري الأصيل. ولكون الفنون جسدت جانباً أصيلاً في تطور معرفة الإنسان بنفسه ومحاولته للتعبير عنها، فمن الصعب تحديد زمن دقيق أو فترة محددة بدأت بها عملية استخدام الفنون كعلاج.
لكن بعض المصادر تؤكد أنّ لهذا النوع من العلاج جذوراً تاريخية تعود إلى الحضارات القديمة كالحضارة المصرية، اليونانية والصينية. فالصينيون على سبيل المثال، اعتمدوا على تقنية الاستشفاء باللون في (الفنج شوي)، حيث لكلّ لون طاقة تؤثر في الحالة النفسية والجسدية للإنسان، بينما يرى آخرون أنّ نشأته تعود إلى فترة مرحلة التنوير في أوروبا.
وعلى الرغم من استخدام هذه التقنية العلاجية منذ فترة طويلة، فإنّها لم تأخذ الشكل المنهجي، وتصبح علماً متخصصاً قائماً على الأبحاث والدراسات حتى منتصف العشرينيات من القرن الماضي، حيث سعى إلى تطبيقها عدد من الأطباء النفسيين، مثل سيجموند فرويد وكارل يونج، كوسيلة علاجية مؤثرة لفهم الصراعات النفسية وتحليلها، فاهتمّ فرويد بدفع مرضاه لرسم أحلامهم، بينما قدّم يونج لوحات فنية رائعة.
كما أنّنا نجد في سيرة الفنان الهولندي العبقري الراحل فان جوغ، الذي كان يعاني مشكلات نفسية عديدة، اضطرته إلى الاستشفاء في مصحة نفسية في باريس مرّات عدّة، أنّه يشير إلى ارتباطه الشديد بأحد الأطباء الذي كان يستخدم الفن علاجاً، ونجح في تخفيف المشكلات الفنسية لفان جوخ وعلاجه، إلى جوار مجموعة أخرى من مشاهير الكُتّاب والفنّانين الذين عالجهم ذلك الطبيب بول غاشيه (1828 – 1909)، وبينهم الفنان مانيه، ورينوار وغيرهما.
علاج الأطفال:
بداية، هناك تعريف لهذا النوع من العلاج وضعته جمعية العلاج بالفن الأمريكية بأنّه الاستخدام العلاجي لصناعة الفن في إطار مهني لأولئك الذين يعانون المرض والصدمة أو التحديات في المعيشة، أو الذين يسعون إلى تنمية الشخصية. ويمكن للناس زيادة الوعي الذاتي وغيره حول التعامل مع الأعراض والإجهاد والتجارب المؤلمة وتعزيز القدرات المعرفية والتمتع بملذات الحياة من خلال إنتاج الفن والتفكير في المنتجات والعمليات الفنية. ويدمج العلاج بالفن مجالات التنمية البشية والفنون البصرية (الرسم والتلوين والنحت وغيرها من الأشكال الفنية) والعملية النفية مع نماذج من الاستشارة والعلاج النفسي.
وتعدّ تجربة العلاج بالألوان من التجارب المهمة لعلاج الأطفال، خصوصاً لكون الأطفال لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل جيِّد، إذ تعتبر تقنية العلاج بالفن من أفضل الوسائل العلاجية لهم. فالطفل مبدع بفطرته، لذا من السهل عليه أن يرسم، على سبيل المثال، ليعبر عن مشاعره. واستطاع الأطباء النفسيون أن يعالجوا حالات كثيرة باستخدام العلاج بالفن فقط مثل الصدمات النفسية الناتجة عن الاعتداء الجنسي أو العنف، القلق، صعوبة التعلّم، ومشاعر الفقد الناتجة عن وفاة أحد أفراد العائلة المقربين. كما أظهر العلاج بالفن نجاحاً ملحوظاً في علاج حالات الأمراض العقلية كعلاج تكميلي مثل الفصام (الشيزوفرينيا). وعلى مستوى آخر، طبقه بعض الأطباء على مرضى السرطان وخصوصاً الأطفال ونجح في تخفيف حدة الألم وتجديد روح الأمل داخلهم.
العلاج بالفن لا يقتصر على الرسم والتلوين فقط، بل تندرج تحته أساليب علاجية عدّة أخرى، مثل العلاج بالكتابة الإبداعية، الرقص، الموسيقى والتمثيل؛ لكن هذه التقنية العلاجية تتم تحت إشراف المعالج المتخصص.
ما يسرتعي الانتباه هنا أنّ الفن كعلاج هو أحد الأساليب التي يمكن للآباء والأُمّهات الاستعانة بها وتطبيقها في المنزل بسهولة. فمن السهل أن نجد في البيت مجموعة أدوات تمكننا من صنع أعمال إبداعية بسيطة وسهلة التنفيذ وجميلة تساهم في خلق حلقة تواصل مع أطفالنا وفي تنمية شخصيتهم فيما هم يقضون وقتاً ممتعاً.
ومن بين هذه الوسائل الرسم الحر مثلاً، وطباعة الأصابع الملونة على ورقة كبيرة، أو تلوين كتاب الرسم، واستخدام الصلصال في عمل أشكال وتكوينات تعجب الصغار، وهي أفكار مناسبة جدّاً للأطفال الصغار بعمر ثلاث سنوات حتى عشر سنوات.
بينما يمكن تلوين (الماندالا) وهي أشكال هندسية مصممة خصيصاً بغرض تفريغ المشاعر السلبية. ويمكن أيضاً عمل (كولاج) (قصاصات) من أوراق الجرائد والمجلات، أو رسم الأماكن التي يشعرون بالراحة فيها مثل الشاطئ أو الحديقة، وكذلك من الممكن قص الأوراق ولصقها لنصنع منها حيوانات، أو كتابة كلمات إيجابية مثل "شكراً" ثمّ تلوينها وإهدائها لمن نحب، وأنشطة فنية مناسبة للأطفال الأكبر سناً.
كما يمكن للكبار أن يرسموا (بورتريه) لأنفسهم كتلك التي كانت ترسمها الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو لتعبر عن مشاعرها الداخلية. أو أن يصنعوا قطعة فنية صغيرة يستخدمونها طوال الوقت، مثل إسورة ملونة أو ميدالية للمفاتيح، ورسم دائرة امتنان مكتوب داخلها أسماء مَن قدموا لك يد العون ذات يوم، وسجل كلّ موقف جميل مرّ بحياتك.
وبشكل عام، وبالرغم من تشعب هذا العلم، تظل تقنية العلاج بالفن وسيلة فعّالة للمؤمنين بضرورة عودة الإنسان إلى فطرته كي يتخلص من الضغوط التي فرضتها الحياة المدنية عليه.►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 692 لسنة 2016م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق