مركز نون للتأليف والترجمة
◄ممّا يساعد الإنسان على نيل مقام القُرب الإلهيّ، العمل الصالح، وهو يدفع بالنفس الإنسانية في طريق التكامل، يقول تعالى:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
وقد أكَّد القرآن الكريم كثيراً على العمل الصالح، وأنّه الوسيلة الوحيدة لسعادة الإنسان وتكامله، وهذا العمل إمّا واجب أو مستحب، وقد حددت الواجبات كما حدّدت المستحبات في الشرع الحنيف، ومن الواضح أنّ الأهمَّ هو القيام بالواجبات، فإذا فرغ من الواجبات ينتقل إلى المستحبّات، فلا يمكن لشخص أن ينال مقام القرب إذا قصَّر في الواجبات، حتى لو بذل جهوداً مضاعفة في المستحبّات، ومن هنا سوف نبدأ بالحديث عن الواجبات، ونشير إلى بعضٍ منها، ثمّ نتحدَّث بعد ذلك عن بعض المستحبّات، لكن بما أنّ الإخلاص في العمل مشترك بينهما، ويعدّ شرطاً أساساً للقرب، فسنتعرّض له ولمراتب العبادة أوّلاً.
1- الإخلاص:
إنّ مقام الإخلاص من أرفع المقامات، وله آثار جليلة جدّاً ذكرتها الروايات بالتفصيل، يقول رسول الله (ص): "ما أخلص عبد أربعين صباحاً إلّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
وتلك القلوب المخلصة تصبح مواضع لنظر الله تعالى، يقول الإمام عليّ (ع): "أين الذين أخلصوا أعمالهم لله، وطهَّروا قلوبهم لمواضع نظر الله".
وللإخلاص مراتب عديدة، أدناها أن يخلص المرء عباداته من الشرك والرياء والعجب، وأن يؤدّيَها لله تعالى فقط، وهذا المستوى هو شرط لصحّة العبادة، فلا تكون العبادة صحيحة من دونه، ولا شكّ أنّ نيّة المرء تؤثِّر في مصيره يوم القيامة، يقول رسول الله (ص): "إذا عملت عملاً فاعمل لله خالصاً، فإنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان خالصاً"، ويقول الإمام الصادقَ (ع): "إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة".
2- مراتب العبادة:
ليست العبادة مرتبة واحدة، بل هي تختلف باختلاف نيَّة الذين يؤدّونها، وهم على فئات:
الفئة الأولى: الذين يعبدون الله تعالى خوفاً من عذابه.
الفئة الثانية: الذين يعبدون الله طمعاً في جنَّته.
هذه الأهداف لا تضرّ بالعمل، وهي توجب القرب الإلهيّ، وإن كان الذين لديهم هذه الأهداف لا تكون عبادتهم بمستوى الذين يقومون بها لأهداف أسمى.
الفئة الثالثة: وهم الذين يعبدون الله شكراً لنعمه، وهذا القصد هو أفضل من غيره، يقول الإمام عليّ (ع): "إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنَ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار".
الفئة الرابعة: الذين يعبدون الله تعالى لتربية أنفسهم وتزكيتها، وهذا القصد لا يضرّ بإخلاص العمل.
الفئة الخامسة: الذين يعبدون الله تعالى لأنّهم يعرفونه بأنّه مفيض الخيرات والكمالات، فهو أهل للعبادة وهم يخشعون أمامه ويخضعون له ويحبّونه، لأنّهم وجدوه جديراً بأن يُعبَد، هؤلاء هم أفضل من غيرهم.
ولابدّ من التأكيد على حقيقة هامّة وهي: أنّ الجدَّ في العبادة يوصل الإنسان إلى الإخلاص، يقول أمير المؤمنين (ع): "الإخلاص ثمن العبادة"، وهنا يكمل الإيمان، فعنه (ع): "من أحبَّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فهو ممَّن يكمل إيمانه".
3- خير الأعمال:
الصلاة هي من أفضل الأعمال الصالحة التي تدفع الإنسان في طريق القرب من الله تعالى، يقول الإمام الرضا (ع): "الصلاة قربان كلّ تقيّ"، وفي حديث آخر له (ع): "أقرب ما يكون العبد من الله وهو ساجد وذلك قوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق/ 19).
والصلاة هذه هي الصلاة التي تُقبل فيها على الله، وتؤدّيها بشروطها، ويكون قلبك فيها حاضراً، ولذا سوف نتحدَّث عن حضور القلب في الصلاة.
4- حضور القلب في الصلاة:
الصلاة تركيب ملكوتيّ، وهي وسيلة الاتصال بالله تعالى، والتضرّع له وذكره، وهي معراج المؤمن، وميزان قبول الأعمال، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي كلّ جزء من أجزائها سرّ إلهيّ، لكن بشرط أن يكون فيها روح وحياة، وروح الصلاة حضور القلب والتوجّه إلى الله والخشوع بين يديه، لأنّ الصلاة بدون قلب، كالجسد من دون روح، فحضور القلب هو روح الصلاة، ومن دونه تكون الصلاة ميتة.
فعن رسول الله (ص): "إنّ من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإن منها لما يلفّ كما يلفّ الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك".
وعن الإمام أمير المؤمنين (ع): "لا يقومنّ أحدكم في الصلاة متكاسلاً ولا ناعساً، ولا يفكّرن في نفسه فإنّه بين يدي ربِّه، وإنما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه".
وروي عن عليّ بن الحسين (ع) أنّه صلَّى فسقط الرداء عن منكبيه، فتركه حتى فرغ من صلاته، فقال له بعض أصحابه: يابن رسول الله سقط رداؤك عن منكبيك فتركته ومضيت في صلاتك؟ فقال (ع): "ويحك تدري بين يدي من كنت؟ شغلني والله ذلك عن هذا، أتعلم أنّه لا يقبل من صلاة العبد إلّا ما أقبل عليه؟"، فقال له: يابن رسول الله هلكنا إذاً، قال (ع): "كلا إنّ الله يتمُّ ذلك بالنوافل".
5- مراتب حضور القلب:
لحضور القلب مراتب عديدة، نشير إلى بعض منها بشكل مجمل:
الأولى: أن يكون المصلّي ملتفتاً في صلاته بالإجمال لله تعالى، وإن لم يكن ملتفتاً لمعاني الألفاظ بالتفصيل.
الثانية: أن يلتفت المصلّي لمعاني الكلمات، فضلاً عن كونه متوجّهاً إلى أنّه يكلّم الله تعالى ويتضرّع إليه.
الثالثة: أن يصبح المصلّي عارفاً بحقيقة كلّ ذكر من أذكار الصلاة، فضلاً، عن كونه ملتفتاً مع من يتكلَّم.
الرابعة: أن تدخل تلك المعارف إلى باطنه بشكل كامل، وهنا يكون اللسان تابعاً للقلب في أفعاله.
الخامسة: أن يصل المصلّي إلى مرتبة الحضور الكامل، فلا يرى غير الله ويغفل عن كلّ ما سواه.
6- العوامل المؤثِّرة في حضور القلب:
بمجرَّد أن يقف المصلّي للصلاة، حتى تبدأ رياح الأفكار تأخذه يميناً وشمالاً، فكان من الضروريّ الإلتفات إلى أمور قد تكون مفيدة في حضور القلب:
1- مكان الخلوة: الأفضل للمصلِّي أن يختار مكاناً ليس فيه ما يلفت انتباهه عن التوجّه لله تعالى، ويحاول ألّا يلتفت ما حوله من أمور تصرفه عن التوجّه له تعالى.
2- رفع الموانع: من قبيل إذا كان مضطرباً لجهة العطش، بأن يشربَ ثمّ يصلّي، أو إن كان تبعاً يرتاح ثمّ يصلّي، وهكذا كلّ الأمور التي تمنعه عن التوجّه للصلاة، ولعلّ من أخطر الموانع التعلّق بأمور الدنيا، كالمال والجاه وغيرهما، لذلك على المصلّي أن يقطع علاقته بهذه الأمور، حتى يسهل عليه حضور القلب والتوجّه نحو الله.
3- تقوية الإيمان: إنّ توجّه الإنسان لله تعالى يرتبط بمقدار معرفته، فمن يصل إلى أكمل الإيمان، ويتعرَّف على عظمة الله وقدرته، ويرى الله تعالى حاضراً، سيكون قلبه حاضراً لدى الصلاة.
قال رسول الله (ص): "اعبد الله كأنَّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك".
4- ذكر الموت: إذا التفت الإنسان إلى أنّ الموت قد يأتيه في أيّ وقت، وأنّ هذه الصلاة قد تكون آخر صلاة يصلّيها، فلن تكون صلاته كصلاة الغافلين، ولذا من المستحسن أن يتصوَّر المصلِّي أنّ هذه الصلاة التي يصلّيها قد تكون آخر صلاة، وأنّه لم يبقَ أمامه إلّا هذه اللحظات لتختمَ صحيفة أعماله.
عن الإمام الصادق (ع): "إذا صلّيت صلاة فريضة فصلِّها صلاة مودّع؛ يخاف أن لا يعود إليها أبداً؛ ثمّ اصرف ببصرك إلى موضع سجودك، فلو تعلم من عن يمينك وشمالك لأحسنت صلاتك، واعلم أنَّك بين يدي من يراك ولا تراه".
5- التهيّؤ والاستعداد للصلاة: على المصلّي أن يتهيّأ للصلاة، فيقوم بكلّ ما ذكرناه قبل صلاته، ويبدأ بالأذان والإقامة، ويقرأ الأدعية الواردة في هذا المجال، ويقول: "يا محسن قد أتاك المسيء".. فإذا حصل الخشوع كبَّر تكبيرة الإحرام وشرع في صلاته.
يقول الإمام الصادق (ع): "إذا استقبلت القبلة فانسَ الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن الله، وعاين بسرّك عظمة الله، واذكر وقوفك بين يديه، يوم تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحق، وقف على قدم الخوف والرجاء، فإذا كبَّرت فاستصغر ما بين السماوات العلى والثرى دون كبريائه، فإنّ الله تعالى إذا اطَّلع على قلب العبد وهو يكبّر، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال: يا كاذب أتخدعني؟ وعزّتي وجلالي لأحمرمنَّك حلاوة ذكري، ولأحجبنَّك عن قربي والمسارّة بمناجاتي".►
المصدر: كتاب دروس في تزكية النفس
ارسال التعليق