(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).
القرآن مصدر الفكر والمعرفة والثقافة والتشريع، وقيم الحضارة الإنسانية.. وهو المنهج الواضح الذي يرسم للإنسان طريق الهدى والاستقامة في مجال العقيدة والعبادة والسياسة والاقتصاد والأسرة والمجتمع والسلوك الشخصي..
ومن الواضح أنّ الفكر الذي انتجه المسلمون في مجال الدراسات الفلسفية وقضايا العقيدة والفقه وأصوله والاجتماع والأخلاق والتصوّف والعبادة... إلخ، جاء نتيجة لعمل اجتهادي، وجهود بعضها متّهم في إخلاصه وموضوعيته وأصالته وتعبيره عن روح الإسلام ودلالات القرآن، ويسعى لتحريف العقيدة والشريعة والفكر الإسلامي.. وبعضها وقع في الخطأ الاجتهادي وابتعد عن روح النص..
ونتيجة لتعدّد الاجتهادات، نشأت مذاهب وفرق عديدة في مجال العقيدة وأصول الإسلام.. أفرزها علم الكلام[1]، والفلسفة والتصوّف والعرفان والتفسير المنحرف.
كما نشأت مذاهب فقهية وأصولية وتفسيرية للقرآن ذاته، وهكذا نشأت المذاهب والفرق والآراء العقيدية والتفسيرية والفقهية وغيرها، نتيجة الاجتهاد الفكري من جهة..
وبسبب ما أفرزته الاتجاهات الهدّامة من جهة أخرى التي تسرّبت إلى الفكر الإسلامي. تسرّبت من عقائد الشعوب والأُمم الأخرى، كالبوذية والإسرائيليات والفكر الكنسي اليوناني والهندي والفارسي والصيني... إلخ.
فتأثّر الفكر والثقافة الإسلامية بهذا الغزو الفكري، نتيجة للترجمة في بدايات العصر العباسي، ونتيجة الاختلاط مع أصحاب العقائد والديانات والأفكار والفلسفات المنحرفة..
وعندما ندرس تلك الظاهرة الفكرية في المجتمع، منذ نهايات القرن الأوّل الهجري، وحتى يومنا هذا، يجب أن تدرس الجهود العلمية التي بذلها أئمة أهل البيت (ع).
وعلماء الدين الذين امتلكوا الأصالة الفكرية والاستقامة العقيدية والوضوح الكامل في فهم التفكير الإسلامي..
ويهمّنا أن نوضِّح أنّ هذا الاتجاه الملتزم الأصيل اعتمد ثلاثة مقاييس علمية للتقييم والفرز بين ما هو خطأ وما هو صواب:
1- المقياس الأوّل هو القرآن الكريم.
2- المقياس الثاني هو السنّة المطهرة.
3- المقياس الثالث هو قواعد وأحكام العقل الملتزم.
ولكي نُقيِّم ونزن ما بين أيدينا من تراث ونتاج فكري وثقافي وعقيدي وفقهي وتفسيري... إلخ، منسوب إلى الإسلام، يجب أن نتأكّد من سلامة وصحّة أصوله.. ومقاييسنا هي هذه الثلاثة.
فكلّ ما يرد علينا من فكر وثقافة نعرضه على القرآن، فإن وافقَ القرآن فهو صحيح، وإن خالفَ القرآن فهو باطل مرفوض.. وكثير من القضايا المفردة لا نجدها في السنّة الصحيحة الثابتة وفي سيرة الرسول (ص)، الأدلّة على صحّة هذا الفكر وتلك المعرفة وذلك السلوك أو بطلانه وتناقضه معها.
والعقل بموازينه العلمية الصحيحة وضوابطه الملتزمة بالكتاب والسنّة هو أحد المقاييس والموازين التي نزن بها ما هو خطأ وما هو صواب في أقوالنا وأفعالنا وعموم سلوكنا.
يهمّنا هنا أن نتحدث بشيء من التفصيل عن اعتماد القرآن الكريم كأساس ومقياس وميزان للفكر والثقافة والمعرفة، ونوضِّحه كالآتي:
1- القرآن هو المقياس لصحّة العقيدة:
إنّ القاعدة الأساسية لبناء الفكر والثقافة والتشريع والحضارة في الإسلام هي العقيدة – عقيدة التوحيد – ، وركّز القرآن على بيان العقيدة بأصولها وأُسسها.. وبتفصيلات واجبة الاعتقاد فيها.. وتولّى الرسول الكريم محمّد (ص) بيان مفرداتها الأخرى التي يجب الإيمان والتصديق بها.. تحدّث القرآن عن خالق الوجود وخلقه العالم والإنسان وصفاته وأسمائه الحسنى، وعن الأنبياء وبشريّتهم، وعن الوحي والنبوّة والملائكة وعالم الآخر، وعن الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وعن الحقّ والباطل وعن الهدى والضلال والكفر والإيمان، وبيّن أنّ الإنسان هو الفاعل وهو المسؤول عن فعله... إلخ.
ومَن يُتابع مفردات العقيدة في القرآن الكريم، يجدها منظومة إيمانية متكاملة.. وما جاء في السنة إن هو إلّا إيضاح وتفصيل وبيان لما جاء في هذه الأصول الإيمانية في كتاب الله.
وحين بدأت الفلسفة وعلم الكلام والجدل العقدي، ونشأت الفرق والمذاهب العقيدية وانحراف الكثير من هذه الآراء عن أصول العقيدة ومداراتها المبنيّة في كتاب الله.
ونشأت مذاهب التجسيم والحلول والغلوّ والتفويض والجبر المنحرفة عن أصول الإيمان في كتاب الله.. تصدّى أئمّة أهل البيت (ع) وطليعة من العلماء، للدفاع عن أصالة العقيدة الإسلامية ونقائها القرآني.. ودعوا المسلمين إلى الالتزام بعقيدة القرآن.. واتخاذه مقياساً للفكر والعقيدة، فهو المقياس للخطأ والصواب، وهو مصدر المعرفة بالله تعالى وبأصول الإيمان والإسلام.. وذلك هو مذهب أئمة أهل البيت (ع) أنّ العقيدة تؤخذ من كتاب الله، وما خالفَ كتاب الله فليس من عقيدة المسلم المؤمن.. فالقرآن هو مصدره ومرجعه..
فيما يلي ندوِّن بعضاً من بيانات أئمة أهل البيت (ع) في هذا المجال:
روى محمّد بن حكيم، قال:
"كتب أبوالحسن موسى بن جعفر (ع) إلى أبي: إنّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكُفّوا عمّا سوى ذلك".
وعن المفضل، قال:
"سألتُ أبا الحسن عن شيءٍ من الصفة، فقال: لا تجاوز ما في القرآن".
وعن عبدالرحمن بن عتيك القصير، قال: كتبتُ على يَدَي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبدالله الصادق (ع):
"إنّ قوماً بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط[2]، فإن رأيت جعلني الله فدك أن تكتب إليَّ بالمذهب الصحيح من التوحيد؟ فكتب إليَّ: سألتَ رحمكَ الله عن التوحيد وما ذهب إليه مَن قِبَلك، فتعالى الله الذي ليس كمثلهِ شيء، وهو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبِّهون الله بخلقهِ، المفترون على الله، فاعلم رحمك الله أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزلَ به القرآن من صفات الله جلّ وعزّ، فانْفِ عن اللهِ تعالى البطلان، والتّشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو الله الثابت الموجود تعالى عمّا يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان".
وفي توحيد الذات وتنزيهه عن مشابهة الخلق، قال حمزة ابن محمّد: كتبتُ إلى أبي الحسن الكاظم، أسأله عن الجسم والصورة، فكتب: "سُبحان مَن ليس كمثلهِ شيء، لا جسم، ولا صورة".
2- القرآن هو المقياس للسنّة النبويّة:
فكما نعلم أنّ السنّة النبويّة عُرِّضت للدسِّ ووضع الأحاديث المكذوبة ونسبتها إلى رسول الله (ص)، وبعبارة أخرى، فقد كذّب كثير من الرواة على رسول الله (ص)، بل كذّبوا عليه (ص) في حياته الشريفة، فحذّر من ذلك بقوله:
"أيّها الناس! قد كثرت عليَّ الكذّابة، فَمَن كذب عليَّ مُتعمِّداً، فليتبوّأ مقعده من النار".
وكما كُذب على الرسول (ص)، فقد كُذب على أئمّة أهل البيت (ع)، ونُسبت إليهم أحاديث وروايات لم تصدر عنهم.. وضعها الكذّابون والمخرِّبون وأعداء الإسلام..
إنّ الأحاديث والروايات المكذوبة التي نُسبت إلى الرسول (ص) وإلى تأسيس علم الحديث وعلم الرجال لمعرفة الحديث الصحيح من غير الصحيح.. فإنّ كُتُب الحديث الموجودة بين أيدينا الآن – من كتب الشيعة أو السنة – لا يمكن اعتبار كلّ ما ورد فيها هو صحيح.. لذلك يقوم العلماء المختصون بعلم الحديث والرجال، لاسيّما الفقهاء، بدراسة الحديث وشخصية الراوي قبل تصديقه.. فإن ثبت وثاقة الراوي، وتطابق متن الحديث مع المعقول، ومع الثابت من السنّة، ومع القرآن، أُخذ به واعتُبر صحيحاً، وإن تناقض مع هذه الموازين، فهو حديث مكذوب مردود..
ويهمّنا أن نؤكِّد أنّ الرسول (ص) وأئمّة أهل البيت (ع) من بعده، أكّدوا لنا ضرورة عرض الحديث المنسوب إلى الرسول (ص) أو إلى أحد الأئمّة (ع) على القرآن.. فإن عارضَ القرآن، فهو حديث باطل ومردود، وإن وافقهُ فهو صحيح يجب تصديقه والعمل به.
وإذن فأحد أهم مقاييس معرفة الصحيح من غير الصحيح من الروايات المنسوبة إلى الرسول (ص) وأهل البيت (ع)، هو القرآن الكريم.
روى الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) عن الرسول الكريم (ص) قوله: "إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلِّ صَوابٍ نوراً، فما وافقَ كتاب فخذوهُ وما خالفَ كتاب الله فدعوه".
وقال الصادق (ع): "خطب النبيّ (ص) الناس بمنى، فقال: أيّها الناس! ما جاءكم عنِّي يُوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يُخالف كتاب الله فلم أقله".
قال عبدالله بن أبي يعفور: سألتُ أبا عبدالله (ع) (الإمام الصادق)، عن اختلاف الحديث يرويه مَن نثق به ومَن لا نثق به، قال: "إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله (ص)، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به".
وعن أيّوب بن الحرّ، قال: سمعتُ أبا عبدالله (ع) يقول: "كلّ شيءٍ مردود إلى كتاب الله والسنّة، فكلّ حديثٍ لا يوافق كتاب الله فهو زُخْرُف".
وعن الإمام الصادق (ع)، أنّه قال لمحمد بن مسلم: "يا محمّد! ما جاءتكَ من روايةٍ من برٍّ أو فاجرٍ تُوافق القرآن، فخذ بها، وما جاءتك من روايةٍ من برٍّ أو فاجرٍ تُخالف القرآن فلا تأخذ بها".
وهكذا يتّضح أنّ القرآن هو مقياس لصحّة الحديث، وأحد حماة الشريعة من التحريف.
3- القرآن هو مقياس الثقافة والمعارف العامّة:
والقرآن كما هو مقياس للعقيدة والسنّة فإنّه مقياس للفكر والثقافة في كلِّ مجال من مجالات الحياة.. فأمامنا كمٌّ هائلٌ من إنتاج المسلمين الفكري في مجال الدراسات الأخلاقية والاجتماعية وفلسفة التأريخ، وتفسير نشأة الإنسان ونظريات أخرى حول المرأة وحقوق الإنسان والمال والسلطة السياسية... إلخ.
ونحن لسنا مُلزَمين بأيِّ نظرية أو اجتهاد لا يتطابق مع القرآن وإن تأوّل المتأوِّلون.. والقرآن يوضِّح لنا هذه الحقيقة بقوله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء/ 59).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء/ 61).
وهكذا يكون المقياس هو القرآن بالرجوع إليه والاحتكام إلى مفاهيمه ومبادئه.. وبذا يُحصّن الفكر الإسلامي من الانحراف والضياع والاختلاط.
[1] - علم الكلام: هو علم دراسات العقيدة الإسلاميّة الذي يتكفّل بالاستدلال على مفردات العقيدة الإسلامية والدفاع عنها.
[2] - بالتخطيط: بالشكل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق