العبد يبحث غالباً في الذنوب، ليعرف أي ذنب هو الذي لا يُغفر، وأي ذنب يمكن أن يُغفر، ليس من أجل تجنّب الذنوب، وإنّما من أجل أن لا يهاب من (الذنب الصغير). وفي هذا نوع من التجرؤ على الله. فالذنب لا يُقاس بذاته، وإنّما بالنسبة إلى مَن يرتكب الذنب تجاهه. فالقضية لا تدور مدار حجم المعصية أو الجريمة، بمقدار ما تدور مدار مَن اعتبرها جريمة ونهانا عن اقترافها.. وعليه، فإنّ كلّ الذنوب، تعتبر كبيرة، لأنّها تحدّياً لله.. ولكنّ بعض الذنوب وعد الله عليها العقاب، وعدم الغفران، مثل إنكار الله، والشِّرك به: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) (النساء/ 48)، كما يقول القرآن الكريم. فالذي لا يعود من إلحاده، وشركه، قد لا يجد فرصة للحصول على عطفه ورحمته، لأنّه تحدّى بذلك ربّه، في أبشع أنواع التحدّي. ورد في الأحاديث: «ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة. إنّ القلب ليواقع الخطيئة به حتى تقلّب عليه فيصير أعلاه أسفله» كما ورد في أحاديث أُخرى أنّ النفس كالصفحة البيضاء، فإذا أذنب الإنسان ذنباً ظهرت نقطة سوداء فإن ندم واستغفر اختفت وإن استمر في ارتكاب الذنوب توسّعت تلك النقطة السوداء، فإذا لم يتدارك نفسه تغلب المساحة السوداء، وحينها لا يبقى هناك من أمل في عودته إلى جادة الصواب. ويشير الحديث إلى الآية الكريمة: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14).
ليس العمل السيِّئ وحده الذي يؤثّر في إسوداد القلب، بل هناك عوامل أخرى تؤثّر على القلب سلباً وإيجاباً من بينها المحيط والبيئة والمعاشرة، فتأثير المعاشرة واضح جدّاً سواء على صعيد الخير أم الشرّ. إنّ مَن يعتقد بانتفاء أثر المعاشرة يغالط نفسه، ذلك أنّ الروح الآدمية شفّافة سريعة التأثير حيث تجري التحولات داخل النفس دون شعور أو وعي لعدم ظهور الآثار مباشرة على الإنسان كما هو الحال في البدن، وللأسف لا توجد وسيلة لمعرفة ذلك لكي يمكن مثلاً أن يزن نفسه، وهل أصبحت روحه مثقلة مثلاً أم خفيفة. يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «واعلموا أن يسير الرياء شرك ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان» وهذه العبارة تكشف مدى تأثير المعاشرة على روح الإنسان وعلى شعلة الإيمان في القلب حيث تخبو شيئاً فشيئاً.
رُوِي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: «إنّ علة الصلاة إنّما إقرار بالربوبية لله عزّوجلّ وخلع الأنداد وقيام بين يدي الجبار- جلّ جلاله - بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاماً لله عزّوجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناسٍ، ولا بطرٍ، ويكون خاشعاً متذللاً طالباً للزيادة في الدِّين والدنيا، مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عزّوجلّ بالليل والنهار، لئلّا ينسى العبد سيِّده ومدبّره وخالقه فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي، ومانعاً له عن أنواع الفساد». فإذا كانت الصلاة - وهي عمود الدِّين - إنّما وجبت من أجل القيام بالربوبية وخلع الأنداد والمداومة على ذكر الله تعالى وتطهير النفس عن الفحشاء والمنكر، فهي إذن وسيلة لهذه الغاية وليست غاية لخلق الإنسان. وإنّما الغاية القصوى وغاية الغايات هي المعرفة ومستلزماتها من تطهير النفس والإقرار بعبوديتها وتوحيد الربّ وعدم الغفلة عنه.
وخلاصة الموضوع أنّ الإنسان لا يمكنه الوصول إلى الكمال دون إرادة منه، فتهذيب النفس للوصول بها إلى مدارج الكمال له أرضيته في روح الإنسان. قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10). فالروح الإنسانية التي تنطوي على هذا الاستعداد في التكامل هي روح حيّة يمكنها النموّ إذا ما توفرت لها الظروف المناسبة، ولهذا عبّر القرآن عن الكافرين بأنّهم موتى لفقدانهم ذلك الاستعداد في إشارة رائعة. قال تعالى: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) (يس/ 70)، القرآن ليس شعراً، ليس خيالاً لكي يمكن تجاوزه. القرآن كتاب حقائق يسلط الأضواء ويكشف ما خفي عن بصيرة الإنسان. الإنسان في نظر القرآن كائن حيّ متى وجد في أعماقه الاستعداد للرقي والتكامل في طريق الصلاح، فإذا انتفى هذا الجانب انتفت صفة الحياة في داخله كالبذرة التي لا يمكن لها أن تنمو، ولذا فإنّ الخطاب موجّه لمن في أعماقه بذور الخير والتكامل، وهو دعوة إلى النمو في طريق الكمال.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق