إنّ اللاعنف هو حد من التزام المرء بالحقّ والسعي إلى العدل دون هوادة، يلزمه المؤمن نهجاً في حياته، بما لا يسمح للمبطل أن يمنعه من هذا النهج. فمثلاً يلتزم المؤمن بأن لا يبدأ بالعنف أحداً ولا يجبر بالعنف أحداً على فعل شيء، فهو مأمون الشر لا يأتي منه الباطل والقبح، إذ هو رجل اختار منهج السلام والمصالحة والمداراة والفعل الحسن والدفع بالحسنى.. كذلك، فإنّ هذا الذي اختار اللاعنف، يطلب وضمن منهجه المسالم، أن لا يبدأه أحد بشرْ أو ظلم أو قبح أو يجبره على فعل أو قول ينافي خياره في الحقّ والحسن ومعانيهما. إنّ إشاعة اللاعنف تكون ضمن معاني الحسن الرباني وسننه في الكون، في السلام، والطاعة له سبحانه، وفي السعي للحقّ وطلب العدل وفي إشاعته للمحبة والرحمة بين أبناء البشر، وفي تذكر الموت والاستعداد لما بعده، وفي رسوخ معاني التوحيد وقيم الوحدانية، وفي مظاهر الصبر والمصابرة على البلاء والتزام المعصوم وفي السعي للأفضل والأحسن دوماً. قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 19-20). إنّ مبدأ اللاعنف الرباني يدعو الرسول (ص) ومن خلاله يأمر الدعاة إلى الله تعالى، بتبليغ الهداية من لدنه تعالى.. فإن تولى المدعوون، فما على الداعي إلّا البلاغ، فهو يذكرهم بأنّه لا يختلف في حاله عن حالهم كونه بشراً: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام/ 15). ويقول الله تعالى لرسوله العظيم (ص): قل لمن يريدون منك ترك منهجك: (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الأنعام/ 56)، وحتى إن كذّبوا الرسول (ص) يقول تعالى: (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام/ 66). أو يقول له تعالى إن تولوا عنك فيما تدعوهم إليه من الحقّ والإحسان: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة/ 129). ويقول تعالى لرسوله الكريم (ص): وإن كذبوك في نهجك وهو الصدق الثابت فتبرأ منهم: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس/ 41). اللاعنف هو إصرار على العلم والعمل به وإعلان البراءة من كلّ قبح وباطل وسوء. بما يعني الإصرار على الصبر وإعمال الفكر وتجنب الحمق وما يجره إلى العنف.. قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (الإسراء/ 53). وقول الأحسن يحتاج إلى معرفة الحسن وأصول قوله من خلال منهج حياة ودين حق: لا يبدو صدقاً ثابتاً إلّا في الشرعة المحمدية. ومن منطلق اللاعنف فحتى لو اختلف المقاييس – كما هي الحال عند الماديين – وقالوا بنسبية الحسن والقبح، وحتى لو قلبت الموازين عند البعض ورأوا أنّ المصلح مفسد، والحقّ باطل والمحسن مجرم.. فإنّ الله تعالى يقول لرسوله الكريم (ص)، مع أنّه غير مجرم، بل الضالون هم المجرمون، بسبب عدم هداهم: يقول تعالى: (قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سبأ/ 25). وفيها معاني التوكيد على المضاء في النهج الصحيح بإسكات المضلين والمضللين، ومثله في قوله تعالى إصرار على هذا المضاء بالقول: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) (الزّمر/ 39). إنّ مبدأ اللاعنف الذي تتوضح مناهجه وأساليبه من خلال آيات القرآن العظيم إنما هو منهج صادق (إستراتيجي) – بالمصطلح الحديث – وليس (تكتيكياً)، كما يتوهم أصحاب المناهج الأخرى، أو كما يتخذونه هم لتسود مناهجهم، ذلك لأنّ الأصل في اتخاذ هذا المنهج في الإسلام هو الرحمة.. الرحمة الواسعة التي هي أُم السنن في الكون، بل هي علة العلل في كلّ خلق، فقد كتب الخالق الرحمن الرحيم على نفسه الرحمة. ومنهج اللاعنف يتأكد بكثير من آيات القرآن العظيم على أنّه رحماني ونهج الرحمة.. قال تعالى: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/ 88-89). ذلك لأنّ العمل من خلال دين الله تعالى القويم وشرعه، هو عمل رصين بالحقّ، مسنود بالعدل، معلول للرحمة الواسعة، محفوف بالبلاء، مقصود به وجه الله تعالى، والذي يصدق في قصد وجه الله تعالى لا يكترث إزاء ذلك القصد بمصلحة يصيبها مما يجري فيه العنف بين العبيد من البشر، فالقاصد الصادق لوجه الله تعالى الذي يحسن الظن بخالقه ويحسن التوكل عليه، صابر في جنب الله محتمل الأذى مع ربه.. ذو عزيمة في دينه لخالقه، مطمئن لأمره سبحانه وتعالى الذي يريد له وللبشر جميعاً الأفضل دنيا وآخره. إنّ هذا الواقع من صفات المؤمن الحقّ ونهجه في الحياة الدنيا، إنما هي غايات العلم ومنتهى صفات الحسن الكوني وعلل الجمال الرباني، وإنّ العنف دون قصاص يحكم به، أو عدل يفرضه، فإنّه لا يناسب أن يرافق غايات العلم وأهداف الحسن في الكون وعلل الجمال في الوجود.. وحتى القصاص، فإنّ الله سبحانه وتعالى يجوز فيه العفو ويحث عليه إحساناً: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة/ 178). فليس من الإنصاف في شيء ولا من الحسن ولا من العدل أن يرافق العنف العمل لله تعالى من خلال شرعه، وفي سير المعصومين تجسيد واضح لمعاني اللاعنف كما لا يخفى.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق