• ٢٢ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المسلم.. واضح الرؤية

المسلم.. واضح الرؤية

◄قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125).

إنّ الإيمان إذا تغلغل في النفس يُضفي على صاحبه قوةً تنطبعُ في سلوكه. فإذا تكلّم كان واثقاً من قوله، وإذا اشتغل كان مخلصاً في عمله وإذا اتجه كان واضحاً في هدفه. وما دام مطمئناً إلى الفكرة التي تملأ عقله فقلّما يعرفُ التردُّد سبيلاً إلى نفسه. وهذا ما يجعله في الحياة رجل مبدأ متميّز؛ فهو يعاشر الناس على بصيرةٍ من أمره إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدَهُم مُخطِئين نأى بنفسه عنهم، وإن تبيّن له أنّه أخطأ في تقديره للأمور لم يجد بأساً في أن يتراجع عن خطئِهِ ويسلك طريق الصواب. قال (ص): "لا تكونوا إمعةً تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسِنوا وإن أساءوا فلا تظلموا".

المؤمن الحقّ لا يكترثُ بأمرٍ ليس له من دين الله سند، فلا يخشى في الله لومة لائمٍ وهو يَمضي إلى غاياته، لا تَعنيه قسوةُ النقد ولا مُخالفة الناس له.

فليَثبت المسلمُ على ما يوقِنُ به، وليستخِفّ بما يلقاه من سخريةٍ واستنكارٍ عندما يشذُّ عن عرف الجهّالِ ويَخُطّ لنفسه نهجاً يلتمسُ به مثوبة الله عزّ وجلّ. قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 41-42).

أجل يجب أن يكون المسلم شاعراً بقوة اليقين في شخصه. فإذا لم يستطع فرضْ ذلك على ما حوله بقي ثابتاً مؤمناً بربّه ثابتاً في قوله. وماذا عسى أن يفعل الناس لامرىءٍ اعتزّ بإيمانه واستشعر القوة بصلته بربّه واستقامته في دينه؟ إنّهم لو تألّبوا عليه جميعاً ما نالوا منه قليلاً ولا كثيراً.

والمسلمُ حين يُقدِمُ على عملٍ يبذُلُ قُصارى جهده ليصل إلى ما يريد، ويتخذ كلّ الأسباب التي تجعله ناجحاً في عمله ثمّ يتّكل بعدها على الله سبحانه وتعالى ليُسدِّد خُطاه.

إنّ الإسلام يكره لك أن تكون متردّداً في أمورك، تَحارُ في اختيار أصوبها وأسلمها. قال رسول الله (ص): "المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ احرِصْ على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز. إنّ أصابك شيءٌ فلا تقل لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل فإنّ لو تفتح عمل الشيطان".

عملُ الشيطان هو ما يُلقيهِ في النفس من أسىً وقنوطٍ على ما فات. والمسلمُ لا يلتفتُ وراءه إلّا بمقدار ما ينتفعُ في حاضره ومستقبله. أما الوقوف مع هزائم الأمس واستعادة أحزانها وتكرار كلمة (لو) أو ليتَ فذلك ليس من خلق المسلم؛ بل لقد عدّهُ القرآن الكريم من مظاهر الحسرة التي تَتَلَجْلَجُ في قلوب الكافرين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (آل عمران/ 156).

وقد جاء في الحديث: "مَن أحبّ أن يكون أقوى الناس فَلْيَتوكَّلْ على الله". والتوكّل الذي يقوى الإنسان به ضربٌ من الثقة بالله ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروفٌ محرجة، ويلتفتُ حوله فلا يرى عوناً ولا أملاً..

فالذي يكافح عدواً شديد البأس، على ضعف العُدّة وقلّة الناصر، يُحسُّ عندما يتوكّل على الله أنّه أوى إلى ركنٍ شديد حيث يستمد من هذا التوكُّل ثباتاً. ويظلُّ يقاوم حتى تبرقُ بشائر النصر خلال جوٍّ مكفهر. وقد بيّن الله تعالى أنّ هذا التوكّل سبيل النبيين وأتباعهم في مقاومة مظالم الطغاة والمستبدين. قال تعالى على لسان النبيين: (وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم/ 12).

ومن عناصر القوّة أن يكون المسلمُ صريحاً يواجهُ الناس بقلبٍ مفتوح لا يُصانع على حساب الحقّ، بل يجعل قوته من قوة العقيدة التي يمثّلها ويعيش لها.

وليس معنى ذلك أن نجابه بالسوء مَن نَوَدّ نصيحتهم إذا وجدنا في امرىءٍ عيباً فنحن بإزائه بين أمور ثلاث: إذا كان هذا العيبُ عاهةً في بدنه أو ضآلة في مرتبته فمن غير اللائق التشنيعُ عليه به عَياباً أو غياباً وإذا كان ذنباً انزلقَ إليه وليس من عادته أن يقترفَهُ فمن العيب أن نفضحَ مثله أو نشهِّر به بين الناس. وإن كان العيب الذي وجدناه معصية فهو الذي يجب أن يقابل بكلمة الحقّ مبتعدين عن الشماتة وحب الأذى، وأن تكون الرغبة فقط في تغيير القبيح وإصلاح الفرد والجماعة. وليس معنى ذلك أن تذكر مثالب الرجل أمام أعدائه لتقرّب من قلوبهم أو لتأكل من موائدهم لتتظاهر بالبراءة من خصاله المذمومة. قال (ص): "مَن أكل برجلٍ مسلمٍ أكْلَةً فإنّ الله يطعِمُهُ مثلها من جهنّم، ومَن كُسيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ فإنّ الله يكسوهُ مثلها من جهنّم، ومَن قام برجلٍ مسلمٍ مقامَ سُمعَةٍ ورياءٍ فإنّ الله يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة".

الإسلام يكرهُ الذين يعيشون في الدنيا أذناباً، تغلبُ على طبائعهم الزلفى والتهافُتُ على خيرات الآخرين. المسلمُ أكبر من أن يربط كيانه بغيره على هذا النحو الوضيع؛ بل عليه أن ينأى عن مواطن الذلِّ وأن يَضْرب في فجاج الأرض يبتغي العزة والكرامة.

قال (ص): "أهلُ الجنّة ثلاثةٌ: ذو سلطان مُقسِط متصدق موفَّق. ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلبِ لكلِّ ذي قُربى، ومسلم. وعفيفٌ متعفِّفٌ ذو عيالٍ قال: .. وأهلُ النار: .. والخائنُ الذي لا يَخفى له طَمَعُ، وإن دَقَّ إلّا خانَهُ. ورجلٌ لا يُصبِحُ ولا يُمسي إلّا وهو يُخادِعُكَ عن أهلِكَ ومالِكَ".►

ارسال التعليق

Top