الحرّية هي قدرة المرء على الاختيار، ولا شكّ أنّ الحرّية أصل محمود يتوق إليه الإنسان بطبعه، وأنّ العبودية وصف مذموم ينفر منه المرء بفطرته، فالأولى أقرب إلى العدل والإنصاف، والثانية أقرب إلى الظلم والإجحاف، والناس قد ولدتهم أُمّهاتهم أحراراً، كما قال الإمام الحسين (عليه السلام): «كونوا أحراراً في دنياكم». كانت العبودية قديمة قدم الظلم ولم يأتِ بها الإسلام، بل وجدها أمامه من رواسب الجاهلية فأراد أن يقضي عليها بالتدرج، ووضع لها حلولاً منهجية معروفة. وأكثر من هذا وذاك فقد جعل الله تعالى تحرير الأرقاء عبادة، حيث قال تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد/ 11-16).
دعا الإسلام إلى العدل والمساواة بين الناس جميعاً، فلا تفاضل بين الناس إلّا على أساس تقوى الله تعالى، ولا يكون التفاضل أبداً على أساس العرق أو اللون أو الجنس، فقد رُوِي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «يا أيّها الناس! ألا إنّ ربّكم عزّوجلّ واحد، ألا وأنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلّا بالتقوى، ألا قد بلغت؟ قالوا: نعم، قال: ليبلغ الشاهد الغائب». وقد كفل الإسلام الحرّية للإنسان وحماه من الظلم والاضطهاد، كما نصت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء/ 70). وممّا لا شكّ فيه أنّ الحرّية جزء لا يتجزأ من ذلك التكريم وقال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين/ 4). وإذا كان الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم فليس من المعقول أن يفرض عليه المذلة والاسترقاق. وهذا ما بينه القرآن في آية أخرى حينما ضرب لنا مثلاً في قيمة الحرّية فقال: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ (النحل/ 75).
فالإنسان وفق الرؤية القرآنية، ومنطق العقل الإسلامي، يجب أن يكون مختاراً وحرّاً، ليكون مسؤولاً، وليجري عالم الإنسان وفق عدل الله تعالى، فلا مسؤولية بلا حرّية، قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 10). (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3). وهكذا تتلازم الحرّية والمسؤولية في العقيدة الإسلامية، وفي الفكر الإسلام، وهكذا تكون قيمه الإنسانيّة في كونه حرّاً مسؤولاً. نعم، لقد خلق الله الإنسان حراً، وخلق بني آدم أحراراً، ليسوا بعبيد للعبيد، وهذا هو الأصل فيهم، والله عزّوجلّ أعطى الإنسان إرادة، ومشيئة، واختياراً، فليس العبد مجبوراً على عمل، وإنّما هو حرّ في اختياره ومشيئته، قال الإمام عليّ (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً».
وقد فرض الله عزّوجلّ الجهاد دفاعاً عن الحرّية ونصرة للمظلومين والمستضعفين في الأرض، فقال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحجّ/ 39-40).
يستوحي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من الآية الكريمة: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8)، فيقول (عليه السلام): «إنّ الله عزّوجلّ فوّض إلى المؤمن أُموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول الله عزّوجلّ يقول: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)»، فأنت لست حرّاً في أن تذلّ نفسك وأنت مؤمن، فقصّة عزّتك تنعكس على قصّة إيمانك، وبذلك يكون الذلّ حركةً سلبيةً في معنى الإيمان.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق