• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النفس المطمئنة

د. ياسر العيتي

النفس المطمئنة

◄(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).

لعل أكثر المواضيع التي شغلت أذهان الغربيين الباحثين في علوم النفس والتنمية الذاتية هو موضوع التحكم بالمشاعر السلبية، وكيف يتجاوز الإنسان المحن والأزمات التي يمر بها، وكيف يتخلص من الشعور بالخوف والقلق والغضب وغيره من المشاعر السلبية؟ ولم أجد ديناً  كالإسلام يداوي القلوب ويمدها بأسباب الراحة والطمأنينة.

يعتمد الذكاء العاطفي على العلاقة بين الذكاء والعاطفة، أو بين التفكير والمشاعر، فالأفكار السلبية تؤدي إلى المشاعر السلبية، والأفكار الإيجابية تؤدي إلى المشاعر الإيجابية. ويستطيع الإنسان أن يتعلم أساليب التفكير الإيجابية وأن يستبدل بشكل واع التفكير الإيجابي بالتفكير السلبي، ومن ثمّ يستبدل المشاعر الإيجابية بالمشاعر السلبية، ومهما حاول غير المؤمن أن ينظر إلى الأمور بإيجابية فهو لا يستطيع أن يرى العالم من الزاوية التي ينظر منها المؤمن. المؤمن يوقن أنّ الله هو خالق هذا الكون، وأن كلّ ما يجري فيه من أحداث إنما يجري بتقدير من الله تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23)، فإذا وقع للمؤمن مكروه لا يسخط، ولا يندب حظه، ولا يشعر بالحسرة والأسى: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن أهل الأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف".

بل إنّ المؤمن الذي اتصل قلبه بالله تعالى اتصالاً وثيقاً يرى في المكروه الذي ينزل به فرصة للتقرب من الله تعالى وإبداء الصبر والرضا بحكمه وقدره: "عجبت من أمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر كان ذلك له خيراً وإن أصابته ضراء فصبر كان ذلك له خيراً"، فهو يتقلب دائماً بين طاعتين: طاعة الشكر إذا أنعم الله عليه، وطاعة الصبر إذا امتحنه الله وهو في كلتا الحالتين سعيد بما ألهمه الله من صبر أو شكر، راض بفضائه، مطمئن إلى حكمته وعدله.

المؤمن يعلم أنّ الحياة مجموعة من الامتحانات والابتلاءات (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك/ 2)، لذلك لا تفاجئه الابتلاءات، بل يعلم أنها معالم على الطريق إلى الله، ومحطات لامتحان القلوب وتمحيصها (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 141)، بل إن قلب المؤمن عندما يمتلئ بالحب لله تعالى (ذلك الحب الذي تغذيه الأعمال والمجاهدات وليس الأقوال فقط) لا يعود يشعر بألم المصيبة، وأنقل هنا كلاماً جميلاً لابن الجوزي يعبر فيه عن هذا المعنى "ويبطل الإحساس بالألم لفرط الحب، وليس ذلك بعجيب، فإنّ الرجل المحارب في حال غضبه أو خوفه تصيبه الجراحات ولا يحس بها، ولا يشعر بها في تلك الحال، لأن قلبه مستغرق، وإذا كان القلب مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه. قال الجنيد رحمه الله: سألت سرياً:

هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا. وقد روينا عن خلق كثير من أهل البلاء أنهم كانوا يقولون: لو قطعنا إرباً إرباً ما ازددنا له إلا حباً! وقد تقدم أن فرط الحب يزيل إحساس الألم، ويؤيد هذا قصة النسوة اللواتي قطعن أيديهنّ حين شاهدن يوسف (ع)..".

ثمّ يقول ابن الجوزي لمن يستغرب هذه الأوصاف "ولا ينبغي أن ينكر ذلك من فقده من نفسه، فإنما فقده لفقد سببه، وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه، ولعمري إن من فقد السمع أنكر لذة الألحان والنغمات، فمن فقد القلب فلابدّ أن ينكر هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب".

إنّ المؤمن يعلم أنّ الذهب يُصفَّى بعرضه على النار، وكذلك القلب يصفو بعرضه على نار المحن والابتلاءات.. لولا المحن لتساوى الناس أمام الله تعالى ولما تبين القوي من الضعيف والصادق من الكاذب، وإن نصر هذا الدين لا يكون إلا على أيدي الصادقين الأقوياء (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 2-3).

المؤمن ينظر إلى المحنة على أنها وسيلة للتقرب من المولى عزّ وجلّ بالصبر، وفرصة لإظهار صدق التسليم والخضوع له والرضا بقضائه وقدره. المؤمن يحب الله حباً تذوب في ناره المحن والمصائب وتختفي الآلام والدموع، لأن كلّ ما أتى من المحبوب محبوب، كما يقول المتنبي:

فما لجرحٍ إذا أرْضاكُمُ ألمُ

إنّ من المشاعر السلبية التي يحررنا الإسلام منها الشعور بالخوف والجبن، فالمؤمن يعلم أنّه لن يصيبه إلا ما كتب الله له (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة/ 51)، ويعلم أنّ الله قد وعد المؤمنين الذي يسعون إلى إعلاء كلمته بالنصر (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 40)، لذلك هو لا يعيش خائفاً منزوياً، بل يصدح بالحق بحكمة وقوة غير هيّاب ولا وجل، لأنّه لا يخاف إلا الله، المؤمن يشعر بالخوف كغيره من الناس، لكنه يختلف عن الآخرين في أن شعوره بالواجب وبالمسؤولية أمام الله تعالى يتغلب على شعوره بالواجب وبالمسؤولية أمام الله تعالى يتغلب على شعوره بالخوف، لذلك هو يتقدم حين يتخلف الآخرون، ويجهر بالحق حين يصمت الآخرون. إنّ هؤلاء الشجعان الذين يتقدمون حين يتخلف الناس ويجهرون بالحق حين يصمت الناس هم عرق الحياة النابض في جسد الأُمّة الذي لولاه لأُعلنت وفاتها! إنّ هؤلاء هم الذين يحيون الأمم، ويصنعون الانتصارات، ويغيرون مجرى التاريخ..

يخوّفني الأنامُ من الطريقِ *** من الآلامِ والخَطَرِ اللَّصيقِ

وكيفَ أخافُ درباً سرتُ فيه *** إذا كان الإلهُ به رفيقي

عجبتُ لمسلمٍ يحيا خلياً *** من الأخْطار في أمْن رغيدِ

ويقنعُ بالحياةِ بلا كفاحٍ *** ولا سعيٍ ولا أملٍ بعيدِ

 

إنّ من الأمور التي تولد الحسرة والأسى في قلب الإنسان أن يشعر بالظلم ينزل به أو بغيره من الناس، وألّا تكون لديه القدرة على الاقتصاص ممن ظلمه أو ظلم غيره. لكن المؤمن لا يراوده هذا الشعور لأنّه يعرف أنّ المسرحية لا تنتهي في هذه الحياة الدنيا، وأنّ للظالم وقفة بين يدي الله، عزّ سلطانه، أعدل الحاكمين، وأنّه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8)، وأي إحساس بالراحة والاطمئنان يبعثه هذا الشعور بعدل الله المطلق الذي لا يترك ظالماً أو معتدياً.►

 

المصدر: كتاب مافوق الذكاء العاطفي/ حلاوة الإيمان

ارسال التعليق

Top