• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحضور الكامل في الصلاة

عمار كاظم

الحضور الكامل في الصلاة

إنّ أسمى هدفٍ يطمح إليه النظام الإسلامي هو تربية الناس العظماء ذوي الفضل، وبناء الفرد والمجتمع على صعيدي الجسم والروح، وفي كلا الجانبين المادّي والمعنوي، وبسط جناحي تسامي الإنسان وتكامله. ومن هنا، تكتسب العبادات، وعلى رأسها «الصلاة»، هذا القدر من الأهميّة، وتُسمّى «الصلاة» عمود الدين.. فالصلاة حينما تؤدَّى بانتباهٍ وبحضورِ قلبٍ لا يقتصر تأثيرها على ما تغرسه في قلب المصلّي وروحه، وإنّما يتّسع مداها ليملأ الأجواء المحيطة به نوراً وشذًى يسري أريجه إلى رحاب البيت والأُسرة، وإلى محلّ العمل ومجلس الأصدقاء، وإلى كلّ ربوع مدينته، بل، وكلّ آفاق الحياة. وكلّما ازداد المصلّي ذكراً وخشوعاً، تتبدّد من حوله ظلمات الأنانية والأحقاد، والاستبداد، ويضمحلّ الشحّ والبخل، ويرتفع العدوان والحسد، ويسطع نور الفلاح على جبين الحياة.

كلّ الوقائع المريرة في حياة الإنسان تعود جذورها إلى الغفلة عن ذكر الله والانغلاق في حدود المصالح الذاتيّة. والصلاة تطلق الإنسان من أسوار هذه الظلمات، وتحرّره من أغلال الشهوة والغضب، وتسمو به نحو الحقيقة المتعالية والخير الأشمل. وحتى تكون الصلاة تعبيراً حقيقياً عن ذكر الله تعالى ينبغي أن يصاحبها حضور القلب فيها، فالإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيما ورد عنه: «إذا أحرمت في الصلاة فاقبل عليها، فإنّك إذا أقبلت أقبل الله عليك، وإذا أعرضت أعرض الله عنك، فربّما لم يرفع من الصلاة إلّا الثلث أو الربع أو السدس، على قدر إقبال المصلي على صلاته».

إنّ الصلاة في مضمار البحث الدائم والذي لا مفرّ منه والمأمور به الإنسان بل المجبول عليه هي أعظم الفرائض وأكثرها تأثيراً، ولعلّ البعض عرّف هذه الخصوصية فقط في ميدان السعي الفردي نحو الكمال، ولم يسمع بدورها في ميدان الجهاد الجمعي والاجتماعي في مواجهة القوى الدنيوية المناهضة. لذا، ينبغي أن نعرف أنّ المروءة والثبات، في المواجهات المختلفة، مرتبطان بكون القلوب والإرادات مليئة بالصفاء والتوكّل والثقة بالنفس والأمل بحسن العاقبة.. الحمد لله الذي جعل الأفئدة النيّرة الطاهرة ترنو إلى الصلاة وإلى إشاعتها وإقامتها، وبثّ فيها لهفة المجاهدة والسعي الحثيث في هذا السبيل.

الصلاة هي المظهر الكامل للعبادة والمناجاة والدُّعاء والمحبّة والإيمان بالمحبوب الفطري لعالم الوجود إشعاعٌ أكثر إشراقاً، وحضورٌ أكثر جلاءً في ذهن مجتمعنا الإسلامي وسلوكه. والحمد لله، فقد أضحت الصلاة اليوم في الكثير من الأماكن التي يجتمع فيها الناس، ولا سيّما مراكز تجمّع الشباب كالمدارس، والجامعات، والمعسكرات، والمتنزّهات وغيرها. لا ينبغي الشكّ في أنّ هذا هو طريق النجاح والتوفيق في جميع المهامّ الفردية والاجتماعية، وهو الطريق نحو السعادة والفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون/ 1-2).

إنّ هذه الصلاة موهبةٌ ليس لها بديل ومنبع فيض لا يزول، حيث نصنع بها الإنسان الصالح من أنفُسنا أوّلاً ومن نحبّ ثانياً، وهي بوابة مفتوحة إلى ساحة واسعة يسودها الصفاء، وإنّها لحسرة أن يقضي الإنسان عمره بجوار هذه الجنّة ولا يزورها ولا يدعو أحبّاءه إليها، فقد أبلغ الوحي النبيّ العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم): (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه/ 132).. الصلاة الزاخرة بالخشوع وحضور القلب أوّل ما تخلق في قلب المصلّي جنّة حقيقية يسري مداها تدريجياً إلى أجواء الحياة، وتهب المرء الصلاح والفلاح. وانطلاقاً من هذه الرؤية، أضحت الصلاة في كلّ الأديان الإلهيّة من أكثر آداب التديّن أصالة، ومن أبرز علامات الإيمان وأوضحها وأشملها، والصلاة الإسلامية هي أكمل الصلوات وأجملها. إنّ الصلاةَ تمثّل النبعَ الفوّار الذي يفيض بكلّ هذه وغيرها من الفيوضات الكثيرة على قلب المصلّي وروحه وتصنع منه إنساناً نقياً، ثابت القدم، راجياً، صاحبَ يقين.

وما جاء في القرآن بأنّ: (الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، ووُصِفَت على لسان النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّها «معراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ»، وفي كلمة واحدة «أنّها عمود الدِّين»، ووصفها الرسول بأنّها «قرّة عيني»، يجب أن يحثّنا على التأمّل والتعمّق أكثر في فهم عظمة الصلاة. طبعاً، يجدر بنا أنّ نعلم أنّ الصلاة لا تعني التفوّه ببعض الكلمات وأداء بعض الحركات، فلا تترتّب كلّ هذه الفيوضات والبركات على إيجاد أمواج صوتية وأعمال بدنيّة دون أن تبعث في هذا البدن روح الذكر والتوجّه؛ وإن كانت - على الأقل - مسقطة للتكليف الشرعي. فروح الصلاة هي ذكر الله والخشوع والحضور أمامه، وهذه الكلمات والأفعال التي فرضت على المكلّف بالتعليم الإلهيّ، هي أفضل قالب لتلك الروح، وأقرب الطرق لذلك المنزل المقصود.

ارسال التعليق

Top