حسين الأسدي
السلام والسعادة والأمن والتضامن والتراحم والأخوة البشرية ما فتأت تضرب رؤوسها على جدران المستحيل.. لكن الإنسانية تعمل على الدوام في دائرة الممكن الذي يبدو أحياناً على صورة الممتنع. ففلسفة المستقبل العالمي ومصير الإنسانية هي أخطر تحد يواجهه المشتغلون والمهتمون بها. إنها من قبيل المستحيل الممكن. أو من قبيل الممكن الذي يبدو اليوم كالمستحيل فقد اطلت نظرية نهاية التاريخ مع بداية عقد التسعينيات من هذا القرن، على العالم، بظهور أول مقالة نشرها صاحب هذه النظرية فرانسيس فوكوياما الياباني الأصل، الخبير في مركز الأبحاث والتخطيط التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، في مجلة ناشيونال انترست في صيف 1989م، إذ سرعان ما احتلت هذه المقالة العناوين الرئيسية في المجلات الأميركية مثل التايم والنيوزويك وغيرها.
وقد أثارت هذه الانباء الكثير من عدم التصديق، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين سرهم اعلان فوكوياما انّ الديمقراطية لم تعد تواجه خطرا من أعدائها، وهذا لم يكن كافيا للاقناع بأنّ التاريخ قد توقف، وقد أصاب هذا الطرح الكثير من القراء بالذهول.
استند فوكوياما، في تأسيس نظريته، على فلسفة هيغل في صيرورة التاريخ وصراع الأفكار، من زاوية التحليل النظري والفلسفي، وعلى التحولات والانهيارات التي حصلت في الاتحاد السوفييتي حتى غدت الدول الخارجة من الاتحاد السوفييتياشبه بدول العالم الثالث فقراً وتخلفاً سواء في المستوى المعيشي للمواطن أو انخفاض الدخل القومي وتدني أداء الاقتصاد والخدمات، وتفاقم مشاكل الديون والطاقة والتلوث والتضخم وغيرها. وعلى الرغم من محاولة العودة إلى شكل آخر من أشكال الاتحاد وانشاء تجمع سياسي واقتصادي لعله يستطيع إيقاف حالة التهاوي المتسارع وذلك عبر تأسيس "اتحاد كومنولث الدول المستقلة" إلاّ أن ذلك لم يجد نفعاً من الحد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية إضافة إلى بروز عشرات المشاكل العرقية والقومية والحركات الانفصالية والنزاعات المحلية حول الحدود والأراضي أو الموارد الطبيعية، هذا بالإضافة إلى تلاشي المنظومة الشرقية مما نتج عنه سقوط الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية من زاوية التحليل الموضوعي.
ومن أهم ما يؤخذ على هذه النظرية انها جاءت لتعلن نهاية التاريخ في الوقت الذي كان التاريخ يتحرك وبسرعة كبيرة في مساحات واسعة من العالم. ولم يلبث فوكوياما أن طور نظريته من مقالة إلى كتاب صدر بعنوان نهاية التاريخ.. والإنسان الأخير، فاثار المزيد من النقاش.
وما ان هدأت عاصفة هذه النظرية، بجميع ما اثارته من حوارات وجدال على نطاق عالمي، حتى حلت مكانها نظرية جديدة، ومناقضة لها، وهي نظرية صدام الحضارات التي طرحها استاذ الدراسات الاستراتيجية وعلوم الدولة في جامعة هارفرد، صاموئيل هانتيغتون، في المقالة التي نشرها في دورية الشؤون الخارجية في صيف 1993م. واستقبلتها الأوساط العالمية بنقد وتشاؤم، وفتحت حوارات بين مختلف قارات العالم، وما زالت تستقطب الاهتمام لأهميتها وخطورتها وما يفسر لنا الانشغال الواسع بهاتين النظريتين تقديم كل منهما تفسيرا شمولياً في تحليل المتغيرات العالمية وتقييمها وربط أجزائها على قاعدة نسق مفهومي شامل، مع تحديد اتجاهات السياسات العالمية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة ومستقبليات العالم مع القرن الجديد القادم. وهذا ما كان يشغل العالم بجميع مؤسساته ومراكزه وخبرائه، إذ انه كان ينتقل إلى أوضاع جديدة في أغلب جوانبه وابعاده واتجاهاته.
بالإضافة إلى خصوصيات كل نظرية، فنهاية التاريخ استعادت احياء فلسفة هيغل التي تعد فلسفة استيعابية لكثير من الفلسفات التي سبقتها، ولهذا فهي تمثل فلسفة مرجعية لكلا المنظومتين الشرقية والغربية.
امّا نظرية صدام الحضارات فقد استثارات العالم الذي خرج لتوه من حرب باردة دامت أكثر من أربعة عقود من الزمان دفعت بالقوى الكبرى إلى التسابق على امتلاك أضخم ترسانات الأسلحة، وأكثرها فتكا وتدميرا في العالم. ولهذا فإن بعض الباحثين رأى في هذه النظرية احياء للحرب الباردة وتوجهها وجهة جديدة، من حرب باردة بين الشرق والغرب إلى حرب بين الشمال والجنوب، ومن حرب بين الرأسمالية والماركسية، إلى حرب بين الغرب والإسلام.
ويرى آخرون ان صاحب هذه المقولة المغرضة التى يعتبرها البعض نظرية أو طرحاً أكاديمياً، وهي في الواقع مقولة لا تتمشى مع منطق التاريخ، وعدوانية في حيثياتها ولا إنسانية في مبرراتها ويتساءل البعض لمن هذه النظرية حقيقة؟ فقد اخطأ الكثيرون عندما ينسبونها إلى صامويل هنتنجتون، رغم أن هذا الأخير أصبح رمزاً دولياً وأباً لتيار فلسفي سياسي أثر ولا يزال يؤثر على شريحة من النخبة الفكرية والإعلامية والسياسية في الغرب.
- كاتب من لندن
ارسال التعليق