(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة/ 185).
في هذا التأكيد القرآني على نزول القرآن في شهر رمضان، في هذه الآية، وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدخان والقدر، إيحاء بأن عظمة هذا الشهر مستمدة من مناسبة نزول القرآن فيه. وقد اختلف الحديث في تحليل نزول القرآن في هذا الشهر، فهناك من ذكر أنّ المراد به أوّل نزوله، وهناك من ذكر أنّه النزول إلى اللوح المحفوظ من البيت المعمور، وهناك من حاول أن يجعل من مفهوم الكتاب معنى غامضاً لا نستطيع إدراكه، فهو الذي نزل على قلب النبي محمد (ص) دفعة واحدة ثمّ نزل عليه تدريجياً. وقد كان السبب في هذا الإختلاف، ظهور هذه الآية وغيرها في نزوله دفعة، بينما الآية الكريمة تنص على أنّه نزل تدريجاً: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) (الفرقان/ 32)، والآية الأخرى (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106).
كما أنّ هناك وجهاً آخر لهذا الإختلاف، وهو أنّ النزول والبعثة كانا في موعد واحد، مع أنّ المعروف أنّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وأن أوّل ما أنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/ 1)، فكيف يمكن التوفيق بين الآية وبين ذلك؟!
والواقع أنّ الظاهر من القرآن الكريم هو أن إنزاله كان في شهر رمضان، ولا نجد هناك فرقاً بين الآيات التي تتحدث عن إنزال القرآن في ليلة القدر أو في شهر رمضان، وبين الآيات التي تتحدث عن إنزاله على مكث أو تدريجياً، ولا نستطيع أن نحمل القرآن على معنى غامض خفي في علم الله، وذلك لا من جهة أننا نريد أن نفسر القرآن تفسيراً حسياً مادياً كما يفعل الحسيون، بل من جهة أنّه لا دليل على ذلك في ما حاول بعض المفسرين أن يقيم الدليل عليه، مما لا مجال للخوض في النقاش فيه، لأننا لا نجد فيه كبير فائدة.
وعلى ضوء ذلك، فإنّ هذا الظهور القرآني البيّن يجعلنا لا نثق بالروايات التي توقّت البعثة في رجب أو تعيّن أوّل الآيات النازلة في سورة اقرأ؛ ولذلك فإنّ من الممكن أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال، كما أنّ كلمة القرآن تطلق على القليل والكثير بما يشمل السورة والآية والمجموع. والظاهر أنّ هذا المقدار كافٍ في الجانب التفسيري من القضية، لأنّ الباقي يدخل في باب التخمين والتأويل من غير فائدة تذكر.
- القرآن هدى للناس:
(هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
هذه هي قيمة القرآن وأهميته في حياة الناس؛ فهو كتاب هدى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور. وهو كتاب البينات التي توضح للناس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كل شبهة، ويفرق بين الحق والباطل. وقد بينا في بداية هذا التفسير أو معنى كون القرآن هدى، هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها، فلا مجال للإشكال بأنّ هناك من لا يهتدي بالقرآن، لأنّ الهدى هنا بمعنى الشأنية لا بمعنى الفعلية.
المصدر: كتاب (تفسير من وحي القرآن)
ارسال التعليق