وفي عالمنا المسرع الخطى اليوم. يمكننا أن نضيف: ولتساعدنا على تبسيط حياتنا حتى تفسح مكاناً لهذه الأشياء.
وقد عدت ذات مساء إلى المنزل في الخامسة والنصف متعجلة، متوترة إذ كنت قد تأخرت عن موعد العشاء، كما كنت أنوي أنا وزوجي حضور أحد الاجتماعات المبكرة، وناديت ابنتي المراهقة أثناء دخولي من الباب الأمامي قائلة: أعِدّي المائدة.
وفي تلك اللحظة انطفأت الأنوار، ولم يكن لدينا أنا وابنتي وابني البالغ (12) سنة من العمر فكرة عما حدث.. ولم نعرف إلّا عندما أدرنا راديو السيارة أنّه حدث انقطاع للتيار الكهربائي واسع النطاق سبَّب إظلام كلّ المنطقة ومدناً وبلاداً أخرى على بعد أميال حولنا، وقالت ابنتي: أعتقد أنّ أبي لن يتمكن من مغادرة البلدة لفترة من الوقت؛ فالقطارات قد توقفت.
وهكذا يجب أن نسرع أكثر من أي وقت.
ولكنني أدركت حينئذ بارتياح أنّه لن يكون هناك اجتماعات إذا ما استمر الإظلام، وبدأت استرخي وارتفعت معنوياتنا، ووجدت أنا والأطفال بعض الشموع فأشعلناها. وأوقدنا ناراً وطهينا السجق على مشواة.
وبعد العشاء جلست أندريا وبراد يستذكران على ضوء الشموع، دون أن يشتت انتباههما الراديو أو التلفاز بينما بدأت أنا اقرأ ديوان شعر محبباً إليّ وكنت مشغولة جدّاً عن قراءته منذ أعوام؛ أما زوجي روس فقد استقل سيارة من البلدة ولحق بنا في جلستنا اللطيفة.
وبعد أن ذهب الأطفال إلى فراشهم تمهلت أنا وروس بجوار النار نرقب صور القصور القديمة بين قطع الفحم. محجمين عن وضع نهاية لهذه الأمسية الجميلة غير المتوقعة، وسألني زوجي في شوق: أتظنين أنّ هذه الليلة ستتكرر؟
فقلت له مؤكدة: بلا شك.. وعلينا أن نبذل بعض الجهد فقط..
فقال مقترحاً بعد تفكير: لعل ما نحتاج إليه هو أن نقلل الجهد؛ فالاجتماع الذي كنا سنذهب إليه هذا المساء مثلاً لم يكن لدينا ما يمكن أن نشارك به فيه؛ بل كنا نظن فقط أنّنا يجب أن نذهب إليه.. وإني لأعجب كم من وقتنا نملأه بأشياء لا قيمةَ لها، أشياء ليست لها أهمية تبرر الجهد الذي نبذله من أجلها.
تُرى هل كان من الممكن لو أبطأنا الخطى في حياتنا أن نجد بهجة جديدة على المناظر التي حولنا؟ وقررت أن أحاول..
وفي الصباح التالي، كنت أواجه خليطاً معقداً من المشاوير، وترتيب الدواليب، وتلميع الفضيات، وأدركت أنّه على الرغم من أنّ نوفمبر قد مرّ منه أسبوع كامل فإنّني لم أخرج للنزهة بالسيارة في الريف المحيط بنا كما اعتدت أن أفعل في الخريف.. ودفعني هذا إلى ركوب العربة والاتجاه بها شمالاً. إنّ الدواليب يمكنها أن تنتظر؛ ولكن أوراق الشجر الذهبية الأخيرة لا يمكنها الانتظار.
وأوقفت العربة على طريق متعرج تحوطه الأشجار وترجلت لأمشي.. كان العشب جافاً تحت قدمي، والسماء شديدة الزرقة فوق رأسي، وكلّ شيء هادئ إلّا من وقع أقدامي.
وأفزعني صوت اندفع فجأة وتراجعت للوراء.. ثمّ جرى شيء ما عبر طريقي، فتبدل خوفي إلى بهجة؛ فقد كانت دجاجة برية رائعة يلمع ريشها المتعدد المتغير الألوان في ضوء الشمس وتبرق عيناها، وغاص الطائر وسط الأكمة واختفى؛ في تلك اللحظة ملأني إحساس بالرضا، وشعرت أنّني قريبة لكلّ كائن حي يعيش كما ينبغي أن أفعل.
وكان قد أصبح من عادتي أن أفكر في السعادة بمصطلحات فصيحة: السهرة الغالية التكاليف، والرحلة البعيدة. أما الآن فقد بدأت أنا وروس نضع في المرتبة الأولى النزهات المهدئة التي حرمنا منها إسراعنا المحموم؛ أيام بطولها في نهاية الأسبوع لصيد السمك. وأمسيات ننفقها في القراءة بصوتٍ عالٍ. وسرعان ما أدركنا سخافة أنّنا قد سمحنا يوماً لأنفسنا أن نلفظ هذه المتع السهلة المنال خارج حياتنا؛ وبدلاً من السعادة النادرة أصبح الاسترخاء هو الجو الطبيعي، والطقس الرائق الذي يمكننا فيه اكتشاف الروائع البسيطة في الحياة والاستمتاع بها.
إنّنا نميل إلى أن نبالغ في تعقيد السعادة ونغامر بفقدانها خلال هذه العملية؛ فنحن نخدع أنفسنا بعدد لا يحصى من الأمور التي يجب أن نقرأها، والمسرحية التي يجب أن نراها، مثلنا مثل أسطورة متفرج الأوبرا الذي تمتم قائلاً: سأستمتع بهذه الرواية ولو قتلتني.
ونحن نميل إلى أن نفرض على أنفسنا السرور المزعوم. وكأنّه عقوبة!
حدثت ذات مرة أن صبحت إحدى صديقاتي الطيبات – ولم يكن لديها أطفال – ابني لقضاء يوم بهيج؛ وكان ابني في الخامسة من عمره في ذلك الوقت، وأعدّت هي كلّ شيء ليوافق إدراكه حتى يستمتع به، فذهب إلى حديقة الملاهي في الصباح، وإلى السيرك بعد الظهر، وإلى مطعم فاخر للعشاء، وكلّ ذلك دون توقف.. وعندما أعادته إليَّ، وكان موعد نومه قد فات منذ وقت، شكرها من أجل ذلك اليوم الرائع؛ ولكنها ما أن ذهبت، حتى أضاف قائلاً لي: لو كنت أعلم أنّ اليوم سيكون على هذه الدرجة من الروعة لفضلت البقاء في المنزل.
ونحن أحياناً ننسى السحر الذي كان من حولنا كلما تقدم بنا العمر، ونسمح لأشياء تافهة أن تشتت أفكارنا، وتطمس أبصارنا عن الافتتان بها؛ كتبَ هنري ثورو يقول: إنّ الحياة تتبدد في التفاصيل فاجعلوها بسيطة.. اجعلوها بسيطة.
كان لنا صديقان، وكان زواجهما في خطر كبير منذ وقت قريب، وكانت مشاحناتهما في تزايد مستمر، وكان أملهما الوحيد في إجازة بعيدة عن البلدة تقرِّب ما بينهما.. وبالبحث في الصحف، وجدا إعلاناً عن مكان يؤجر لموسم الصيف ويبدو مثالياً وجاء فيه: موقع مختار، طرق مرغوب فيه، كلّ وسائل الراحة، معيشة سهلة.
وعندما ذهبا لرؤية المكان كادا ألا يصدقا عيونهما، فقد كان منزلاً عتيقاً متداعياً يقع في نهاية طريق ضيق قذر في قلب مكان مجهول؛ أما من الداخل، فرغم أنّه كان نظيفاً ومرتباً، فإنّه كان بدائياً جدّاً.
وتلعثم صديقانا وهما يقولان لصاحب البيت النظيف، وهو يدخن غليونه: ما هذا؟ لقد أعلنت عن وسائل راحة وموقع وأشياء مرغوبة.
فأجاب الرجل العجوز باعتزاز: نعم يا سيدي، إنّك ستذهب بعيداً قبل أن تجد ما يميز هذا المكان في هذه الصفات، لماذا؟ انظر حولك ليس هناك طريق رئيسي لمسافة عدة كيلومترات، ستنام مثل كتلة الخشب ولا توجد ضوضاء المواصلات.
أما بالنسبة لوسائل الراحة فلديكم مكنسة، وحلتان للطهي وفرن. فليست هناك فرصة لعمل منزلي شاق، كما أنّه لا توجد فرصة لأي عمل؛ الحديقة أيضاً، كلّها شجيرات توت وورود نمت برياً، ثم أومأ قائلاً: وهذا ما يجعل الحياة يسيرة.
وبواقع غريزي طائش، قرر الصديقان استئجار المنزل، وكتبا إلينا قائلين: إنّهما ولا شكّ سيملان ويعودان إلى البلدة خلال أسبوع.
ولكنهما لم يعودا، وفي منتصف الصيف تلقينا منها خطاباً مثيراً للدهشة؛ يصفان فيه حياتهما في ذلك المنزل الصغير وأخبرانا كيف يجلسان معاً في الشرفة تحت الورود المتفتحة المتسلقة، يتحدثان، لأنّه ليس هناك ما يمكن عمله غير ذلك وقالا: لم نتكلّم هكذا منذ سنوات.
ومنذ سنوات، وصلتُ حديثاً إلى مدينة غريبة، عندما دعتني صديقة إلى حفل عشاء في منزل سيدة اشتهرت بأنّها مضيفة رائعة؛ وعندما اقتربت من ذلك المنزل الأنيق، سألت نفسي بعصبية عما إذا كان مظهري لائقاً، وما إذا كنت سأستطيع أن أصمد أثناء المحادثات التي تكشف عن سعة الاطلاع.
وبعد أن قرعت الجرس فتح الباب بوساطة امرأة تلبس ثوباً بلا تكلف.. كانت شابة ذات وجه صبيح، بددت ارتباكي على الفور، وحدثتني قائلة: تعالي معي وشاركينا في المطبخ، وفي المطبخ وجدت ست سيدات أخريات من المدعوات، واحدة تجهز السلاطة، والأخريات يحملن الأطباق إلى مائدة أعدت ببساطة في الشرفة.. وقبل أن أتبين شيئاً كنت قد اندمجت ورحت أتكلّم وأضحك مع الأخريات.
كان العشاء لذيذاً والحديث مرحاً؛ وبعد أن أكلنا أحضرت مضيفتنا (إلزا) حاكياً إلى الشرفة، وطلبت منا وهي تبتسم أن نصغي بكلّ أرواحنا، ثم أدارت أسطوانة لموسيقى الناي الساحرة.
وأسلمنا أنفسنا إلى خيط الموسيقى الحلو، وأحسسنا رويداً رويداً برائحة الزهور تنبعث من الحديقة، والقمر الأبيض العظيم يمخر السماء صاعداً ببطء، وتجمع كثيف من النجوم، والليل.. ليل الصيف الرائع..
وعندما انتهت الموسيقى، استأنفنا حديثاً عذباً، وقد تدعمت صحبتنا بهذه التجربة النادرة التي اشتركنا فيها.
وتمتمت أنا قائلة لواحدة من الضيفات الأخريات: يا لها من أمسية ساحرة منحتنا إياها إلزا.
فأجابت: أنّها تفعل ذلك دائماً؛ فإلزا تعرف بساطة المتعة.
بساطة المتعة..! إنّه فهم ثمين، إدراك يمكن أن يملكه أي إنسان، سواء كان غنياً أو فقيراً، شاباً أو كهلاً.. وكما ذكر روبرت كاهن في كتابه دروس للحياة: حين تفرغ الحياة وتصفي الحساب فأي ذكريات ستدفئ قلوبنا؟
ضحكة الطفل السعيد ونحن نؤرجحه عالياً، ومتعة ساعة ما بعد الغذاء عندما نؤجل غسيل الأطباق لبعض الوقت، ونجلس لنتكلّم فقط، والفيلم الذي شاهدناه معاً، والمثلجات التي استمتعنا بها بعده.
إنّها قطع عابرة من الروعة، وقد تأتي لكلّ من البهجة، والمتعة في الأشياء البسيطة!
حقاً.
إنّ لذة الحياة وبهجتها لا تظهران إلّا في الأشياء البسيطة. ►
المصدر: كتاب تمتع بالحياة (ستون طريقة لجعل حياتك أفضل)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق