- التعامل المقنّن مع الأشياء: الإنسان يتعامل مع الأشياء والموجودات جميعها، وله حاجة طبيعية مادِّية ونفسية وعاطفية وعقلية وغريزية.. مقدّرة تقديراً علمياً وعملياً موضوعياً.. الإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب واللِّباس والجنس والماء والسكن والجمال والترفيه والحب والكراهية... إلخ. وتتعامل غرائزه وخياله وعقله وأوهامه وعواطفه مع الحقائق والموضوعات والأشياء، وكثيراً ما يتعامل تعاملاً خاطئاً.. فينحرف من الإعتدال والوضع الطبيعي إلى الإسراف والتبذير والتقتير.. إنّ ثقافة القرآن ترسم للإنسان خطّ الاعتدال، وتُثقِّفه على أنّ لكل شيء في هذا الوجود مقداراً محدّداً، فكل شيء هو بمقدار.. وتوفير هذا المقدار هو الحقّ، وهو الموقف الطبيعي للإنسان.. نقرأ هذه الثقافة في قوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/ 8). (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2). ويثني القرآن على عباد الرحمن النموذج والقدوة في السلوك والتعامل.. يثني على إنفاقهم المُعتدل الذي لا إسراف فيه ولا تقتير، ليعرض طريقة الإنسان السوية في الإنفاق، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67). الإنسان عندما يتعامل مع الأشياء تعاملاً خاطئاً، يجلب لنفسه ولأُسرته ولمجتمعه المشاكل والأزمات، وبالاعتدال يحفظ صحّته وماله وسمعته. - الإسراف في الطعام والشراب والمياه: إنّ أخطر الأسباب المؤدِّية للإنهيار والأزمات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، هما الإسراف والتبذير.. إنّ الإنسان يُسرِف في استعمال الطعام والشراب والجنس واللباس والماء ووسائل الزِّينة والترفيه.. فيتجاوز الحد والحاجة الطبيعية، وبهذا الإسراف يضرّ نفسه ومجتمعه، يضرّ وضعه الصحي، ويضر وضعه الاقتصادي والاجتماعي.. فمثلاً الإسراف في استعمال الماء سبّب أزمات للشعوب والبلدان التي لا تملك كميات كبيرة من المياه.. إنّ هدر المياه في الاستعمال.. في الغسل والسقي وغيرهما.. يُسبِّب الشّحّة والحاجة الكبيرة وارتفاع أسعار الماء.. إنّنا نشاهد المُسرِف والمُبذِّر في استعمال الماء يفتح صنبور الماء ويتركه يجري، ويدفع كميات كبيرة من الماء دون حساب.. فيُسرف في استعمال الماء حتى ينفق أضعاف ما يحتاج إليه عندما يهدر كميات كبيرة من الماء.. والفلاح الجاهل باستعمال الماء، يستخدم كميات كبيرة في السقي تفوق حاجة مزروعاته مرات عديدة، فيهدر الماء بجله وإسرافه.. إنّ الإسراف والتبذير يُضيِّع أضعاف ما يحتاجه الإنسان بصورة فعلية. وفي إعداد الطعام والشراب، نرى الإسراف والهدر والعبث عندما تعدّ موائد الطعام.. فلا يتناول المُسرفون من الطعام المُعدّ إلا بعضه، ويُلقى الباقي في حاوية الفضلات، فيبذّر المال والطعام والشراب أضعاف ما يحتاجه الإنسان، فيتحوّل إلى فضلات تُلقى في حاويات الفضلات. إنّ البعض يتباهى بكثرة ما يُعِدّ في الولائم من الطعام والشراب، ويُعدّه كرماً، وتفوّقاً على الآخرين.. ويزداد الإسراف خطراً عندما يُسرف الإنسان في تناول الطعام والشراب، فيُثقِل معدته وجهازه الهضمي وصحّته العامة بالطعام والشراب، فيتحول هذا الإسراف إلى ضرر بالصحة وسلامة الجسم، ورشاقته وجمال قوامه، وراحته وقدرته على الحركة والعمل والتحمّل.. فتتحول متعة الطعام والشراب إلى أمراض وآلام وعبئ ثقيل على الجسم والصحة واقتصاد الأسرة والمجتمع. إنّ الترشيد في الإنفاق والإستهلاك المادّي يمكن أن يوفِّر نسبة عالية من دخل الفرد والأسرة ودخل الأُمّة العام، ويحفظ الصحة والثروة.. والقرآن الكريم ينهى عن الإسراف في العديد من آياته، منها قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). ويذكر كتاب السير: "أنّ رسول الله (ص) مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال: ما هذا الإسراف.. فقال: أفي الوضوء إسراف، قال: نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ". - الإسراف في الزينة والأناقة واللباس: ويدعو القرآن إلى الزينة والجمال والأناقة، ولكنّه ينهى ويحرِّم الإسراف في الاستعمال المفرط للزينة والأناقة واللباس.. إنّ مروراً سريعاً في الأسواق ومشاهدة واجهات المعارض ومراقبة المتسوِّقين وعمليات الشراء، يكشف لنا حجم البَذْخ والإسراف والنهم في شراء الملابس ووسائل الزينة والتجميل، وحجم الأموال التي تُهدر بسبب الإسراف والتبذير والبذخ.. ممّا يضرّ باقتصاد الأُسرة، بل ويحدث في كثير من الأحيان لها المشاكل والخلافات.. إنّ المشتريات والمستهلكات تفوق حاجة الإنسان الطبيعية للباس، ولوسائل الزينة ومُستحضرات التجميل، لا سيّما في الجانب النسوي، فبعض النساء ومثلهنّ في ذلك الرجال، يدخل في عملية منافسة ومباراة مع أقرانهم المسرفين، متصوِّراً أنّ من أسباب تفوّق شخصيته وظهوره بين أقرانه وفي مجتمعه هو البذخ والإكثار من استعمال الملابس والتفنّن المفرط في وسائل الزينة والتجميل.. وتلعب وسائل الإعلام المستأجَرة للشّركات المنتجة لوسائل الزينة والتجميل ولدُور الأزياء.. تلعب دوراً كبيراً في الإغراء بالشراء والدفع نحو الإسراف المادِّي.. إنّ تقليص حجم الإنفاق وتوفيره للمستقبل والطوارئ والتخفيف عن كاهل الدخل الفردي والأُسري، هو التصرف السلوكي المعقول، والذي يعود بالنفع على المُنفق.. ويكفي كراهية أن نقرأ أنّ الله لا يُحبّ المُسرف.. فالله يكرهه ويمقته وهو يختال في زيِّه وزينته المُسرفة.. إنّ القرآن الكريم إذ يُحرِّم الإسراف، إنّما يُحرِّمه لأسباب اقتصادية وتربوية نفسية لصالح الفرد والمجتمع، ووقاية من المشاكل التي تحدث في الأُسر والمجتمعات بسبب الإسراف والتبذير.. فشريعة القرآن هدفها جلب المصالح للإنسان ودرء المفاسد عنه. - الإسراف في الحب والبغض: وليس الإسراف في الإستعمال المادِّي.. الطعام والشراب والماء واللِّباس والزينة والترفيه وكثرة السفر وغيرها فحسب.. بل والإسراف في الحب والبغض والعقاب.. فالبعض يتجاوز الحد في حبِّه وبغضه، وفي عقابه.. إنّ الحب لكي يؤدي غرضه النفسي والعملي في الحياة يجب أن يكون حبّاً معتدلاً، لا إسراف فيه ولا تجاوز.. إنّ الحب الطاغي يعمي بصر المُحبّ، ويسدّ منافذ عقله وقلبه عن رؤية العيوب والنقائص في المحبوب والتستر عليه، بل والدفاع عن خطئه حتى يدخله في المعصية، وقد عالج القرآن هذا الخطأ بقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8). ومن الشعر لحكمة، يُصوِّر الشاعر الحب الأعمى والمحب المُسرف في حبه بقوله: وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٍ **** ألا أنّ عين السخط تبدي المساويا إنّ الإنسان يواجه حالات وأوضاع ومواقف من بعض الناس تشمئزّ نفسه منها، ويكرهها، ويكره الإنسان الذي تصدر عنه تلك الأخطاء والمواقف السلبية.. غير أنّ البغض من الناس يُبالغ في الكراهية، ويُسرف في السخط والبغض حتى يتجاوز الحد، فيتحوّل إلى معتدٍ على الآخرين وظالم لهم.. لذلك ينهى القرآن عن الإنزلاق في هذه الهاوية بقوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). ووضع حد معتدل لردّ الفعل والتفاعل النفسي باتِّجاه الحب والكره، هو تنظيم للإنفعال وحماية توازن الشخصية.. يوجِّه الإمام علي (ع) الإنسان الذي يندفع مبالغاً بالحبِّ والكراهية، يوجِّه بقوله: (أحبب حبيبك هوناً، عَسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغِض بَغِيضَكَ هوناً ما، عَسى أن يكون حبيبك يوماً ما". فالإمام في هذا التوجيه الرائع، لا ينصح بعدم طغيان مشاعر الحبّ والكراهية فحسب، بل ويرشد وينبِّه إلى رؤية مستقبلية، ووضع خطّ رجعة لئلا يُحرَج الإنسان ويواجه مشاكل نفسية واجتماعية عندما تزول أسباب البغض أو الحب وتتغير المواقف.. إنما يقع الإنسان في هذا الحرج والأزمة بسبب مبالغته وإسرافه في الحب والبغض. - الإسراف في العقاب: ومثل آخر على الإسراف الذي نهى القرآن عنه، هو الإسراف في العقاب، فمن حق الإنسان المعتدى عليه أن يرد الإعتداء بالمثل، أو يتسامى فيعفو، غير أنّ البعض يتجاوز الحدّ، ويُسرف في العقاب أضعافاً مضاعفة في القتل أو الضرب أو القول أو القصاص في المال... إلخ، بل ويتجاوز البعض على ذوي المعتدي الأبرياء.. انتقاماً من المعتدي، فيقع هؤلاء الأبرياء ضحايا الإسراف وتجاوز الحد في العقاب والرد على المعتدي؛ لذا نجد القرآن يعالج هذه المشكلة الكُبرى في السلوك، ويضع حدّاً لها.. قال تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 194). (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126). (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء/ 33). - الإسراف في الجنس: وكما اتّضح، فإنّ القرآن ينهى عن الإسراف في كل شيء، لأنّه تجاوز الحدّ، ولكل شيءٍ حدّ.. فينهى عن الإسراف في الكلام وفي الجنس، وغير ذلك، فكما يُسرف الإنسان في الطعام والشراب والماء والعقاب... إلخ، فإنّه يُسرف كذلك في الجنس، فإنّ من أخطر ما تواجهه البشرية الآن هو الإسراف في الجنس.. حتى تجاوز الحد، وتحوّل إلى الإباحية والفوضى الجنسية، وإلى الشذوذ والإنحراف المرضي.. إلى حد اللواط والمساحقة، وممارسته مع الحيوانات.. وتشهد الدراسات والتقارير الطبية بالكارثة المرضية كارثة الأيدز وغيره من أمراض الجنس التي تواجه البشرية نتيجة الإسراف الجنسي.. والقرآن يُحذِّر من الإسراف الجنسي والفوضى الجنسية، نقرأ من هذه التحذيرات: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (الأعراف/ 80-81). (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 24). (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ(*)) (النساء/ 25). قال أئمّة اللغة معنى الإحصان: هو العفّة والزواج، ومعنى المسافحة: هي الإقامة مع المرأة ومباشرتها جنسياً من غير زواج شرعي، ومصادقة المرأة سرّاً للتعامل المُحرّم معها. إنّ القرآن يُحرِّم السفاح والإباحة الجنسية واتخاذ الأخذان والشذوذ، حماية لكرامة المرأة والرجل.. وحفظاً للصحة والمواسرة؛ ولئلا يولد في المجتمع ولد وهو لا يعرف له أباً فيه. - الإسراف في الكلام والجدل والملاحاة: ومن مصاديق الإسراف التي نهى القرآن عنها، هو الإسراف في الكلام والجدل، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54). فإنّ الكثير من الناس يكثر الجدل والخصومة واللجاجة، سواء جادل للدفاع عن الحق أو الباطل، والقرآن يرفض الملاحاة والجدل واللجاجة؛ ليكون الإنسان طبيعياً في حديثه وحواره وبيانه للحقيقة.. ويوضّح الرسول الكريم محمد (ص) رفضه للجدلية والملاحاة فيقول: "ما نهيتُ عن شيءٍ بعد عبادة الأوثان، كما نهيتُ عن ملاحاة الرجال". وبعض المصابين بأمراض الكلام يُسرف في الكلام والحديث حتى يتحول إلى ثرثار يملّه الناس، ويكرهون حديثه. إنّ القضية التي لا يحتاج بيانها أو تعريفها، أو الدفاع عنها، أكثر من حديث واضح ترى المصابين بأمراض الكلام يتجاوزون الحد في الحديث عن تلك القضية إلى أيام أو أسابيع وربما شهوراً يكرر ويعيد.. وما أحسن القول المأثور: "خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ". وهكذا فإنّ الإسراف هو من أخطر أمراض البشرية، الفردي والإجتماعي؛ لذلك يُثقِّف القرآن ضد الإسراف، ويدعو إلى الإعتدال والإتزان والتحرر منه.. فهو كما عرّف تجاوز الحد في كل شيء.. لذا فإن عاقبة الإسراف هي الهلاك والدمار للأفراد والشعوب والأُمم؛ لأنّه خروج على قانون الطبيعة ونظام الوجود. ويوضِّح القرآن هذه الحقيقة بقوله: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (الأنبياء/ 9). - التّبذير: عرّف الراغب الأصفهاني التبذير بقوله: "التبذير: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكل مضيِّع لماله، فتبذير البذر: تضييع في الظاهر لمَن لا يعرف مآل ما يلقيه"(1). والتبذير ظاهرة سلبية يمارسها البعض من الناس عند التعامل مع المال.. وهي عملية تضييع وإنفاق للمال في ما لا يعود بالنفع على صاحبه، فليس هو الإنفاق الرشيد للمال.. إنّ ترشيد الإنفاق ووضع المال في مواضعه التي تعود بالنفع على الفرد والأُسرة والمجتمع والدولة، هو الإنفاق الذي دعا إليه القرآن، وذلك يتطلب وعياً علميّاً، ومعرفة في موارد إنفاق المال والجهود والإمكانات وتوظيفها. إنّ الجاهل والسّفيه يُضيِّع ماله، ويُبذِّره في ما لا يفيد، ولا المال وأصحاب المال.. يُبذِّرون أموالهم، ولا يُحسنون الإنفاق، ممّا جرّهم إلى الإفلاس والخسائر الفادحة. والقرآن يُثقِّف الإنسان المسلم على حُسن الإنفاق وترشيده، وحفظ المال وصيانته من التبذير والتضييع، لذلك نجد القرآن الكريم يصف المُبذِّرين بأنّهم إخوان الشياطين؛ لأنّهم عابثون مضيِّعون.. جاء هذا البيان في قوله تعالى: (حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27). وينهى القرآن عن تبذير المال والإسراف في إنفاقه، فيقع المُبذِّر والمُسرف في الحسرة والندم على ما بذّر وضيّع وأسرف فيه.. قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29). إنّ القرآن الكريم ينهى عن التبذير والإسراف حتى في الإنفاق المحبّب والمقبول؛ ويُثقِّف على أنّ عاقبة التبذير والإسراف هي الحسرة والندم. ولكي لا يُبذّر المال، نهى القرآن عن أن يُسلّم المال إلى السفيه، وهو مَن لا يملك الرُّشد في التصرف في المال.. ويُضيِّع المال ويُبذِّر، بل ويحكم الفقه الإسلامي بالحجر على تصرفات السفيه المالية، ويفرض عليه الحجر المالي، صيانةً لماله، وحافظاً عليه، وعلى اقتصاد الأسرة والأُمّة وماليّتها.. وهو إجراء قانوني إسلامي يعطي الدولة حق التدخل لصيانة المال الفردي والجماعي وحفظه. جاء هذا التشريع واضحاً في قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5). بل ويمتدّ الولاية، ولاية الدولة أو المتولِّي على مال اليتيم، ولا يُسلّم إليه المال، بل يُنفق عليه من ماله بالمعروف حتى يبلغ الرُّشد، حفظاً على ماله من التضييع والتبذير، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء/ 6). إنّ من أخطر مشاكل اقتصاد الأُسرة والفرد والأُمة هو الإسراف والتبذير، لذا يُحرِّمها الإسلام، ويُشدِّد في النهي عنهما، والتثقيف على الاستعمال الطبيعي المتوازن في كل شيء يتعامل معه الإنسان. - التقتير: والتقتير هو ظاهرة سلبية في الإنفاق، سببها البُخل وشحّ النفوس ولؤمها، والتقتير هو التضييق في الإنفاق من المستطيع.. وكثيراً ما يصل التقتير إلى حدِّ الحرمان ويتسبّب في حدوث المشاكل الأُسرية عندما يُقتِّر ربّ الأسرة في الإنفاق ويُضيِّق على زوجته وأبنائه وأفراد أُسرته.. وربما قاد التقتير بعض أفراد الأسرة إلى طلب المال من الحرام والإنحراف والوقوع في حبائل الشيطان.. أو الكراهية للزوج وللأب أو الأُم.. وذلك سبب مادِّي من أسباب انهيار الأُسرة.. لذلك يأمر القرآن بالإنفاق المُعتدل وينهى عن التقتير بقوله: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا). وبقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67). ويأمر الرسول (ص) بالتوسعة على العيال ويعدّها أفضل من الصدقة، ويُحذِّر القرآن من الشّحّ(**)، بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - الهوامش: (*) أخذان: أصحاب من الرجال غير الشرعيين. (1) معجم مفردات ألفاظ القرآن.
(**) الشّحّ: البُخل مع حرص/ مختار الصِّحاح.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
ليليا
جزاكم الله كل خير على هذا الموضوع