• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافة القراءة.. رهان مُجتمع المعرفة

ثقافة القراءة.. رهان مُجتمع المعرفة

لا يوجد شك في أن للقراءة أهمية كبرى لا يُمكن تجاوزها، لذا كَتَبَ الفراعنة على جدار أول مكتبة أنشأوها العبارة التالية: «هذا غذاء النفوس وطِبُ العقول». المعنى واضحٌ قوي، فالقراءة غذاء وعلاج في آن؛ بل هي أساس الحرية الفكرية والسياسية والثقافية، لأنّه يستحيل بناء مُواطِن حر من دون تمكينه من القراءة وسُبل الوصول إلى المَعرفة والعِلم، كما يتعذَر بغيرها صناعة حاضر المجتمع ومستقبله؛ فهي الذاكرة الحضارية ضد النسيان، والسد المنيع ضد أشكال التبعية والاستلاب، ورافِعة التنمية الحقيقية، والرهان الناجح لاحتلال مَوقِعٍ مشرِف بين الأُمم.

على أن القراءة لا تنفصل عن عملية الكِتابة، بل هي كِتابة جديدة؛ فهُما مُتصلتان ومُتلازمتان. من هنا يرتبط طرْح قضية القراءة بمسألة الكِتابة، بل قلْ إن مشكلة القراءة في مجتمعاتنا، هي مشكلة كتابة أيضاً.

فهل نحن مُجتمع يَكتب؟ ثم متى؟ وماذا؟ ولمن؟ وقبل أي تشخيص لمُشكلة القراءة وربْطها بثقافة المجتمع، نتساءل أيضاً: هل يتعلق الأمر بمجرد ظاهرة عابرة أم مُستوطِنة؟ طارِئة أم مُمتدَة عبر الزمن؟

نحن في الواقع أمام قضية مُركَبة لا تهم بلداً عربياً لوحده، بل العالَم العربي برمته؛ كما أنّها مشكلة المجتمع برمته، إذ تُسائل ثقافته ومؤسساته ومُختلف الفاعلين فيه. فهي ليست مشكلة الجامعة ولا المؤسسة التعليمية وحدها، لأنّ المطلوب أن يقرأ الجميع. يتصل الأمر بذهنية تأسست عبر تاريخٍ من الجمود والتخلُف وهَيمَنة تصور خاص للمعرفة والفكر. وفي مستوى آخر، مسألة إرادة سياسية، لأنّ الدولة مسؤولة عن توفير الماء والكهرباء والصحة عبر قطاعات محدَدة، كما هي مسئولة عن التغذية الفكرية، لأنّنا نعد الكِتاب خبز الثقافة؛ ومثلما نتحدَث عن أمنٍ غذائي، نتحدث عن أمنٍ ثقافي وفكري.

لكنْ كيف نفسِر غياب حبّ القراءة والارتباط بها؟ كيف نقرأ غياب قيَم للقراءة وثقافة للقراءة؟ ولأنّه قبل قراءة الثقافة، لابدّ من ثقافة القراءة أولاً، فإلى أي حد نحوز بمجتمعنا قدراً من هذه الثقافة؟

بالتأمل في واقع مجتمعاتنا، نلمس هَيمنة ثقافة الأُذن والمُشافَهة على ثقافة القراءة والكِتابة، من حيث هي ثقافة العَين والنقد. ولعلها مُفارَقة حقاً أن مجتمعات «اقرأ» لا تقرأ. ولئن كانت أول سورة من القرآن هي «اقرأ» بصيغة الأمر، فالواضح أنّه الأمر الذي لا يتم الامتثال له. فطوال قرون عجزت المُجتمعات الإسلامية عن توطين ثقافة القراءة وترْجمتها سلوكياً في المجتمع. وعلى الضد من ذلك، رسَخت، عبر فَهمها للدين، ثقافةَ حفْظِ النصوص وتخزينها. ولهذا تَجد العُلماء والفقهاء يتفاخرون في ما بينهم بذلك، شعارهم: «مَن لا يحفظ النص فهو لص»، ليصير العِلم مجرد حفظ واسترجاع، ما دام مودعاً فى الصدور.

كما أن المَساجِد أيضاً لا توفِر عملياً سوى مَصاحف أو أجزاء من النص القرآني، فلماذا تغيب فيها كُتب أخرى دينية وغير دينية وهي المؤسسات الأكثر انتشاراً في المجتمع، وتستطيع أن تقدِم الكثير في هذا الشأن؟ كيف يُمكن النهوض بمستوى المصلين من دون تشجيعهم على القراءة، بل كيف يُمكن الرفع من صدق إيمانهم وثباته من دون كُتبٍ ومَكتبات ومن دون بلْورة سلوك القراءة في المَساجد؟

مؤسسة الأسرة أيضاً، لم تُبلوِر عاداتٍ للقراءة؛ فمنازلُنا تكاد تخلو من مَكتباتٍ ومساحاتٍ مفردة للكُتب، باستثناء ما هو موجَه منها للديكور. هكذا تغيب عادة القراءة في البيت قبل الوصول إلى المدرسة، لينتهي فعل القراءة بانتهاء مرحلة التمدرس، ما يُسائل دَور المدرسة والسياسة التعليمية على نحوٍ خاص. فالواضح أنّنا لا نعطي قيمة للكِتاب وما يحمله من أفكارٍ ومَعارِف، بدليل أننا نادِراً ما نتبادل إهداء الكُتب، بل قلما نجد أفراداً يقرأون في الساحات والحدائق العمومية أو على الشواطئ أو في وسائل النقل. ربما لأنّنا لا نُعلِم أبناءنا حبّ القراءة، وهي المهمة التي أَخفقت فيها المدرسة نفسها، لتُختزَل في أحسن الأحوال إلى أنشطة موجَهة بحافز الحصول على علامات مدرسية أو الإعداد لمُباراة وظيفية. فالبَرامج المدرسية لا تُشجِع على تنمية القراءة كفعل واع وذاتي ونقدي، تعلمي وتثقيفي.

هو وضع يُسائل «قيمة القارئ» ومَكانته في مجتمعات يمثِل فيها استثناء للجماهير العريضة. فمَن يقرأ يجد نفسه مُحاصراً بنظرات غير مشجِعة ومُلاحظات مُنكرة، تعد القراءة نشاطاً غير ذي قيمة. ولعل ما يُضاعِف محنة كلّ قارئ مُفترَض، غياب أماكن وفضاءات خاصة بالقراءة. هكذا لا تحفل ثقافتنا المجتمعية بمَن يقرأ، بل تُغازِل بالعكس قيَما وذكاءات بعيدة عن القراءة والمَعرفة.

كيفية إقامة ثقافة القراءة

قد نتهيب أحياناً من القراءة، غير أنه تهيُبٌ سلبي، يُجسده ثقافياً الخوف من الكِتابة والمكتوب. هو خوف مزدوج، من جهة لربط الكِتابة بالسلطة، ومن جهة ثانية، لربْط المكتوب بالمقدَس الديني؛ فبتقديس المكتوب القرآني وتصديق قدراته السحرية والعلاجية، لا نهاب الكتابة إلّا في بُعدها المقدَس. لذا نُسارع إلى حمل القرآن وتقبيله، أما أن نقدِره من حيث هو نص مكتوب يتضمَن أفكاراً وقيماً إنسانية، فهو أمر غير وارِد.

إن الغائب الأكبر، هو الربط العضوي ما بين ثقافة القراءة وأهمية الكِتابة لبِناء المَعرفة العِلمية وبلْورة الفكر وتنمية الفرد ثقافياً واجتماعياً وسياسياً...إلخ. فما زال مُجتمعنا ينظر للقراءة كترفٍ فكري لا يعني الفئات العريضة من الأفراد الذين يتدافعون يومياً من أجل لقمة العيش؛ من هنا تتنامى ذهنية لا تشجِع على القراءة ومحبتها، بل تقود على الضد من ذلك إلى مُحاربتها بسبل مختلفة من دون وعي أحياناً، ما دام سلاح هذه الحرب هو الجهل وما أفتكه من سلاح!

ها هنا نجد وسائل الإعلام مقصِرة في ترسيخ ثقافة القراءة، وهي التي تتحمَل المسؤولية كاملة في ما تنشره في صفوف النشء، يشهد على ذلك حَجم البَرامج التوعوية والتثقيفية الهزيل مُقارَنة ببرامِج التسلية والفكاهة. كما أن النماذج المروَج لها، لا تمت بصلة إلى عالَم المَعرفة والفكر، والأسوأ من ذلك كله، اختزال الثقافة برمتها في أعمال التسلية الشعبوية التي تتخذ من التفكه القبلي والعرقي والجهوى ثنائيات ثابتة.

إن الدولة مسئولة عبر سياستها الثقافية والفكرية والإعلامية، ومُطالَبة ببلْورة سياسة واضحة، تعطى أهمية للكِتاب وللمَكتبة، وتيسِر وصول المُواطن إليها، من باب الحقّ فى المعلومة والخبر والمَعرفة. كما أن الأحزاب بدَورها معنيَة، لأنّها لا تشتغل إلّا بشكلٍ موسمى انتخابوي، ولا تضع بلورة سلوك القراءة ضمن أهدافها المباشرة. المجتمع المدنى بدَوره مَعنى، لأنّه لا تنمية من دون قراءة؛ ثم إن التنمية العميقة تتجاوز التوجهات والمُقاربات الاقتصادية إلى أخرى فكرية وثقافية، تمثِل الكِتابة والقراءة أولى الخطوات لتأسيسها ودعْمها على نحوٍ أوثق؛ فالتنمية الثقافية يقيناً، أسبق من التنمية الاقتصادية أو المادية.

فكيف يُمكن بناء مجتمع يُطبَع إيجاباً مع القراءة؟ ثم ما السبيل لبناء مجتمع القراءة والمَعرفة؟ وتحديداً كيف يُمكن إقامة ثقافة القراءة؟

إن الرهان الأساسي، هو تحويل القراءة إلى سلوك ثقافي وعادة اجتماعية وقيمة من القيَم؛ فلا يكفي أن تبقى مجرد نشاط طُلابي أو واجب مدرسي أو مهني؛ وذلك من دون أن ننسى أن للقراءة بُعداً علاجياً قوياً جداً، ضمن ما يُسمى «العلاج بالقراءة». ولئن رأى البعض أن زمن القراءة تقلَص لمصلحة الوسائط الاجتماعية، فلا ينبغي أن ينسينا ذلك ما توفره هذه التقنيات من مجالٍ واسع للقراءة يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية والإيديولوجية والثقافية. المشكلة إذن ليست في الإنترنت، بل في سوء استعماله وتوظيفه، ما دام واضحاً أن الهجرة الرقمية قوية إلى المواقع الإباحية، بينما بالإمكان صرف كلّ هذا الجُهد في الكُتب الرقمية والمجلات الإلكترونية المُختصَة...إلخ.

المطلوب إذن، بناء مجتمع القراءة والمَعرفة، لأنّه رهان اليوم والغد، فنحن بحاجة إلى استنبات ثقافةٍ جديدة عبر مَداخل التنشئة الاجتماعية، بالتشجيع على القراءة والكِتابة وقيَم احترامهما معاً، مثلما نحن بحاجة أيضاً إلى تعزيز مَكانة ثقافة العَين مقارنة بثقافة الأذن والمُشافَهة. بكلمة واحدة، نريد مجتمعاً يقرأ فيه الجميع، وليس التلميذ والطالِب والمدرِس فقط؛ فليست القراءة مجرد تَرف، بل حاجة أساسية وضرورة ثقافية ووجودية يومية ملحة.

ارسال التعليق

Top