• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حديث عن السعادة

حديث عن السعادة
كان أحد رجال الثورة الفرنسية الشباب يقول: "إنّ فكرة السعادة جديدة في أوروبا"، في زمانه. وكان ذلك الثائر الشاب يريد، بوصفه هذا للسعادة، أن يفصح عن رفضه الشديد لمفهوم الكنيسة القديم، فالكنيسة كانت ترى إنّ التعبير الأسمى عن السعادة يكمن في الإعداد لحياة النعيم في الآخرة. ويخالف مفهوم سعادة الحياة الآخرة، التي تتطلب من الإنسان أن يضحي بكل شيء، كي يستحق الحصول عليها، مفهوم سعادة الحياة الدنيا. والسعادة، حسبما توضح موسوعة ديدرو، تُشكِّل "حالة أو وضعاً من شأنه أن يجعلنا نشتهي دوامه دون تبدُّل"، وهي تختلف عن اللذّة التي هي إنفعال عابر. وهناك مَن يعتبر أنّ السعادة مماثلة للقناعة المرحة بعيش الكفاف، إذا جاز القول، وليس للقناعة التي يمليها الخضوع، كما أنّ هناك مَن يروج حكايات تهدف إلى إشاعة مقولة: "المال لا يصنع السعادة". بيد أنّنا عندما نسمع شخصاً معدماً، يقول مثل هذا القول، يعترينا شعور بأنّه يلوذ بالتسليم. أمّا عندما نسمعه من فم شخص ثري، فمن حقنا أن نعتبر إنّ ذلك يفضح، بشكل من الأشكال، وعيه أنّه لا يستحق كل الإستحقاق الإستمتاع بالسعادة، وأنّه يشعر بالحاجة إلى أن يتستر عليها، وهذا ما يدفعه لئن يحدد لها موضعاً غير موقعه هو. ولاريب في أنّ البشر لا يكفون عن نشدان السعادة والحياة الأفضل. وليس للسعادة، مكونة من ذرا العيشة الراضية ولحظات اللذة التي تخلف ذكريات ممتعة، ما يضاهيها في سعادة مسطحة حافلة بالتفاهات وتخلو من لحظات رائعة تنقل صاحبها من دكنة السهول إلى أضواء القمم العالية. لكننا، مهما قلنا ومهما صنعنا، لا نستطيع أن نرى سعادة تتحقق في حياة بائسة تفتقر إلى مستلزمات العيش. فمانع السعادة الرئيسي هو الفقر، مع ذلك، قد يخطئ مَن يعتقد إنّ أشدّ الناس عسراً، كالناس الذين هم في اسفل السلم الإجتماعي، يقفون، حتماً، في طليعة الذين يقاومون ويناضلون من أجل تغيير المصير الذي فرض عليهم، ذلك لأنّ الذي يفرق في الإملاق قد يلوذ بالتسليم. وإذا عدنا إلى تعريف السعادة في الموسوعة الكبرى، نرى أنّه قد تضمن الفقرة التالية: "... إنّ إمتلاك الثروات هو أساس سعادتنا، إلا أنّه ليس السعادة نفسها، إذ إلى مَ يمكن أن تؤول السعادة عندما ينعدم شعورنا بها، رغم إمتلاكنا لمقوماتها؟ فمجنون آثينا، الذي كان يعتقد أنّ كل المراكب التي كانت تصل إلى ميناء بيريه ملك له، كانت تسعده تلك الثروات والأموال، دون أن يكون مالكاً لها، في حين أنّه قد يكون أصحاب المراكب الحقيقيون يملكونها دون أن يتلذذوا بذلك". ونقرأ في الموسوعة الكبرى، أيضاً، الأسطر التالية التي تتعلق بتنوع أشكال السعادة: "... إنذ البخيل لا يتذوّق إلا طعم الأمل في أن يتمتّع بثرواته، أي، لا يتذوّق إلا الشعور بالمتعة التي يحس بها لمتلاكها إياها، وبذلك يجد نفسه سعيداً. إنّه، في الحقيقة، لا يستخدمها أبداً، لكنه يجد اللذّة في محافظته عليها. وهذه اللذّة تؤول إلى شعوره بأنّها ملكه، فيجد، بهذا الشكل، نفسه سعيداً، وبما أنّه يجد نفسه سعيداً، لماذا ننكر عليه سعادته؟ أليس لكل إنسان الحق بأن يكون سعيداً، وفق ما تقضي بذلك نزواته؟ إنّ الشخص الطموح لا يسعى إلى تسنم المناصب إلا لأنّه يشعر بلذّة في أن يجد نفسه يعلو على الآخرين. وجالب الثأر قد لا يأخذ بثأره أبداً، لولا أنّه كان يأمل في أن يجلب له الثأر إرتياحاً...". كل ما ذكر يقلِّص مفهوم السعادة حتى يؤول إلى مفهوم إمتلاك الوسائل المادية، التي يتصرّف بها مالكها كما يحلو له، وبشكل أناني، في معظم الأحيان. مع ذلك، لا نستطيع تجاهل الحقيقة التالية، التي لفت النظر إليها جون دي لابرويير: "يوجد ما يخجل في أن يكون المرء سعيداً، وهو يرى بعض ضروب البؤس" على أنّه لو وجد خجل حقّاً، فمن غير المؤكد أن الذين كان يجب عليهم أن يشعروا به، قد شعروا به. فهم جد بعيدين عن البؤس حتى أنّهم لا يرونه. وهذا حقيقي إلى حد أنّ مالكي الثروات يدفعون، إلى السكن في أماكن بعيدة عنهم، أولئك الذين يصعب عليهم تجنُّب الضيق إن لم نقل البؤس، مع أنّهم هم الذين ينتجون الخيرات التي تستفيد منها قلة من المستغلين. كان الإشتراكي الطوباوي هنري دي سان سيمون يقول: "إذا عمل الأغنياء على إزدياد سعادة الفقراء، فقد يحققون بذلك تحسين حياتهم الخاصة"، لكن ما أقل الأغنياء الذين نراهم يتبعون هذه النصيحة. ويظهر مدى وقاحة الذين يستفيدون من عمل الآخرين، واقع أنّهم يدّعون أنّ مَن يستأثرون بثمار كدهم يعرفون السعادة الحقيقية؛ وذلك لأنّهم يبدون حرصهم الشديد على تجنُّب حسد السعادة المكذوبة، التي يؤكِّدون وجودها في الفاقة، بنت الإستغلال. أمّا ما يتعلق بالأفراد، فلا ريب أنّ لكل إنسان مفهومه الخاص عن السعادة، كما أنّ له تطلعاته الخاصة، وهذا يصح بالنسبة للشخص الذي يحب المغامرة ومواجهة الأخطار ويعشق الأسفار، والذي قد يمل مللاً قاتلاً في حياة يسودها الهدوء والعمل المنتظم، بكل ما يتطلبه من رتابة. ويجب القول بأنّ رجالاً ونساءً، من هذا النوع، يجدون سعادة في ظروف لا يجد فيها آخرون إلا المخاطر.

ارسال التعليق

Top