◄في الواقع أنّ هذا العامل الأخلاقي وإن كان يشكل جزءاً مهماً من حركة الحسين (ع)، وهذا الهدف (رفض الضيم ورفض الذل والخضوع) وهذه الأخلاقية التي يتمثل بها الحسين (ع) وإن كانت تشكل جزءاً من الأهداف الإسلامية ومن تحرك الحسين (ع) إلّا أنّها لا يمكن أن تكون هي التفسير الكامل لحركة الحسين (ع) كلّها، ومن ثمّ فلا يمكن أن يمثّل هذا التفسير نظرية هذه الثورة وتفسيراً لكل تفاصيل هذه الحركة وجميع أبعادها.
وذلك لأنّ الحسين (ع) – بصفته إماماً يتحمل مسؤوليات تجاه الأُمّة الإسلامية – لا ينطلق في تحركه من المشاعر الخاصة والعواطف أو الأحاسيس الأخلاقية الذاتية النبيلة فحسب، بل ينطلق أيضاً من المصالح الإسلامية العليا للدين والأُمّة والواجبات والمسؤوليات العامة حتى لو كانت على حساب العواطف والأحاسيس النبيلة والأخلاق الإسلامية الذاتية الخاصة، ولذا فقد يفرض على الإمام الحسين (ع) أحياناً أن يقف موقفاً يبدو للوهلة الأولى أنّه يتسم بالتنازل من أجل مصلحة إسلامية أكبر وأعظم، كما وقف الإمام الحسن (ع) في الهدنة مع معاوية وعلى خلاف ميوله وعواطفه النبيلة، فإنّ: "الحسن والحسين... إمامان قاما أو قعدا"[1] كما قال رسول الله (ص) أي انّ كليهما من حيث الإمامة متساويان، وهما تربيا في بيت واحد في حجر واحد، من أُم واحدة، ومن أب واحد، ومن جد واحد، أي انّهما لا يختلفان في شيء من الأشياء النفسية العامة أو الأخلاقية أو الاجتماعية، وأخيراً فهما عاشا معاً جنباً إلى جنب، ومن هنا لا يمكن أن نفترض أنّ أخلاقية الإمام الحسن (ع) – بشكل عام – تختلف عن أخلاقية الإمام الحسين (ع)، ومن ثمّ نفترض أنّ أحدهما يرضى بالضيم والآخر لا يرضى به أو هذا يرضى بالذل وذلك لا يرضى به[2]. وإذا افترضنا أنّ حركة الحسين كانت منطلقة (فقط) من قضية أخلاقية ذاتية فردية وهي قضية رفض الظلم والذل، فسوف نواجه – إذن – التساؤل بالنسبة إلى الإمام الحسن (ع)، هذا الإنسان الذي عاش إلى جنب الإمام الحسين (ع) وهو إمام أيضاً، ومع غض النظر عن إمامته فإنّ الإمام الحسن (ع) عاش نفس ظروف الإمام الحسين (ع) ونفس الأخلاقية، ونفس الأوضاع والمستوى الاجتماعي، والنسب والانتماء الأُسري، ومن حيث التربية ومن حيث كل الخصوصيات، فلماذا تكون هذه الأخلاقية موجودة في هذا الإنسان وليست موجودة في ذلك الإنسان؟ وأشار الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء إلى هذا البعد وهذه الحقيقة أيضاً وتحدّث عن موقفه، وأنّه ليس موقف رفض الضيم وحده. فأنّ المناقبية العربية كانت ترى أنّ رفض الضيم والذل الشخصي مسألة ليس وراءها ما هو أكبر منها وهي أهم من كلّ ما في حياة الإنسان العربي! إلّا أنّ المسألة ليست كذلك في الأخلاقية والمناقبية الإسلامية، وانما نظرة الإسلام إلى هذه القضية هي أنّ هذا شيء مهم في الإنسان وهدف من أهداف حياته، إلّا أنّ هذا الهدف ليس كلّ شيء في الحياة. والفرق إنما هو في النظرة الكلية إلى الحياة، حيث كان الإنسان الجاهلي العربي يرى الحياة محصورة في الدنيا، والمناقبية فيها هي العزة والكرامة الفردية، فهي أهم شيء في هذه الحياة؛ وأما في النظرية الإسلامية فالحياة هي الآخرة، والدنيا هي طريق الآخرة، ومقياس المناقبية في الحياة هو عمل ما يرضي الله تعالى وينفع المجتمع الإنساني في تكامله وعلى المدى الطويل، وبذلك تصبح العزة والكرامة الفردية إحدى المفردات في حياة هذا الإنسان والتي قد تزاحمها أو تقترن بها كرامات ومصالح أخرى للمجتمع الإنساني بشكل عام أو إحدى المقامات العالية في الدار الآخرة، كما في الذلة للوالدين أو المؤمنين، أو لولي الأمر الواجب الطاعة، أو لمصلحة إسلامية أخرى أكبر. وقد أشار الإمام الحسين (ع) في كلامه إلى هذه الحقيقة يوم عاشوراء عندما قال: "الموت خير من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار". والنقطة المهمة هنا هي أنّ الإمام الحسين (ع) يقول إذا ترك الخيار للإنسان بين الموت وركوب العار، فالموت أهون عنده من ركوب العار، إذن فالعار والذل والضيم مرفوض بدرجة أنّ الموت أهون وأقل شأناً من العار، إلّا أنّ للإنسان هدفاً أعلى وأسمى من كل شيء، أسمى من الموت، وأسمى من الكرامة الذاتية، وهو رضا الله سبحانه وتعالى ودخول الجنة، وفي سبيل ذلك يتحمل الإنسان – ذو الأخلاقية الإنسانية العالية – شيئاً أشد وقعاً عليه من الموت وهو العار في سبيل أن يكسب رضا الله سبحانه وتعالى وفي سبيل الموقف الصحيح الذي يخدم به الإسلام. إذن فالمعركة في الحقيقة ليست معركة رفض ظلم وذل أو إباء ضيم فقط، فهناك شيء أكبر وأعظم من مسألة رفض الظلم – رغم أنّه من أهداف الإنسان التي قد يتحمل الموت من أجلها – هو رضا الله سبحانه وتعالى وتحقيق السعادة الأبدية لهذا الإنسان في الحياة الأخرى.► المصدر: مجلة الفكر الإسلامي/ العدد 12 لسنة 1416هـ. قمقالات ذات صلة
ارسال التعليق