◄الإنسان الحضاري يخلق مجتمعاً حضارياً، والإنسان المتطور نحو الأفضل يستطيع أن يبني كياناً راسخاً لأُمته، والإنسان المؤمن بحقّ الآخرين يحمي الحرّية التي منحها الله لعباده.
هذه حقائق ثابتة لا يمكن نكرانها وتجاوزها، والتستر عليها، إذا أردنا بناء مجتمع صالح يتوفر فيه الخير والكرامة للإنسان، بعيداً عن الدكتاتورية، والاستبداد، والتخلف الحضاري.
وفي حياتنا المعاصرة تعيش الأُمّة في شرقنا العربي شدة طال بلاؤها، وصارت تنتقل من لون إلى لون، ومن مأساة إلى مأساة، والملاحظ أنّ الجميع ينادي بحقوق الإنسان ويتباكى في نفس الوقت عليها، ولكن من جهة أخرى نرى غالبية المسؤولين في المنطقة بعيدين كلّ البعد عن مصلحة الشعوب المضطهدة، والتي تعاني من اختناق مرهق جراء كبت الحريات، والاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان، وانتهاك قيمة الإنسانية.
في حديثي عن النقاط الثلاث المحددة في هذه المداخلة القصيرة استطيع أن أقول بكلّ قناعة أنّ غالبية السلطات التي تحكمنا في هذه الفترة السوداء انطوت تحت قناع الدكتاتورية، والاستبداد المنطوي على الهزيمة، والهروب من مواجهة الواقع وهو الحرّية، ولا شك أنّ التخلف الذي حصل ويحصل في هذه المفاصل الثلاثة هو نتيجة انعدام الحرّية التي هي القيمة الإنسانية التي ينشدها كلّ إنسان حرّ من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى، وهو بناء المجتمع الحضاري.
حقّ الاختلاف والتعددية:
وطبيعي أن يكون هناك (اختلاف) في وجهات النظر في كثير من الأمور الحياتية، وعلى مختلف المستويات الفكرية في المجتمع الواحد، إذ ليس من الضروري أن يتفق الكلّ على برنامج واحد، أو وجهة نظر موحدة، وعند حدوث مثل هذا الاتفاق القسري فهو ظاهرة تدل على أنّه مجتمع جامد غير متحرك، لأنّ حسنة الفكر الاجتهادي عند الإنسان كونه فاعلاً منتجاً يدل على إدراك منفتح مُجدد.
وإذا اقتنعنا بالقول بأنّ الاختلاف في جوانبه رحمه، مصداقاً للحديث المشهور: "اختلاف أُمتي رحمة" – لدى مَن يقول بصحّة هذا الحديث – نستفيد من خلال التمعن فيه أنّ الاختلاف في الرأي ليس بالضرورة دلالة على ضعف الإنسان، وإنما العكس فإنّه يدلنا على قوة المجتمع، شرط أن يكون هذا الاختلاف في مصلحة الأفراد أو الجماعات، ولا يمس مصالحها الأساسية. فالاحترام المتبادل بين الرأي والرأي الآخر يجب أن يتوفر بين الأطراف المتصدية للعمل البناء في سبيل تقويم المجتمع، لأنّ الوعي الفكري ليس حكراً على جهة دون جهة، مع الاعتراف بالتباين الكبير في أنماط الأنظمة السياسية المعاصرة نظراً لاختلاف التوجه في الكيان الحزبي خاصة، فالبعض من الأحزاب يتبنى فكرة الحزب الواحد، بينما البعض الآخر يؤمن بالتعددية، ولا شك بأنّ الفصيل الأوّل يعتبر الانغلاق الفكري أساساً في تحركه، ولا يفسح لغيره مجال العمل، وهذا هو الجمود الفعلي في إطار التحرك مهما كان نوعه.
أما الفصيل الثاني فهو يؤمن بالتعددية فلا يرى ضرورة الانغلاق على نفسه، إذ ليس من حقّه منع الآخرين ممارسة حقوقهم العامة. فالإنسان حرّ في رأيه سواء أكان على مستوى العقيدة أو غيرها، وهو حرّ كذلك في التعبير عنها، وليس لأحد أن يمنعه من ممارسة هذا الحقّ ما دام لم يضر بمصلحة الآخرين، والضرر يحدده العقل السليم، أو العرف العام. فالله سبحانه لا يُكره أحداً على قبول دين معين، وإن كان يؤاخذه على التخلف عنه في الآخرة، أما في الدنيا فهو في سعة من حرّية الاختيار، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا...) (الكهف/ 29)، أكثر من هذا فقد صرّح الله سبحانه بحرّية الإنسان في معتقده، حين قال: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256).
وموقف الإمام عليّ (ع) من المعترضين عليه سياسياً – أيام خلافته – وأمام الملأ صورة حية لذلك، فإنّه لم يمتعض، ولم يسجن حتى من طرح اشكالاته بطريقة يلحظ عليها الاستخفاف بمقام الإمام.
وإذا كان الإنسان حرّاً في التعبير عن معتقده، حتى وإن كان مخالفاً للمظهر الديني العام، فمن باب أولى أن يكون حرّاً في التعبير عن رأيه وأفكاره في أي مؤسسة ضمن إطار المجتمع سواء في المؤسسة الإعلامية، أو السياسية، أو الحزبية، أو التشريعية. نظراً لكون الحرّية هي إرادة إنسان واعٍ بين نفي وإثبات في موجود. والموجود هنا المجتمع، والظاهرة هي الحرّية، فليس لبنية المجتمع منع ممارسة هذه الظاهرة على كلّ المستويات، وأعلاها المستوى التشريعي ضمن إطار دستوري.
ويرى البعض من كتّابنا أنّ فكرة الأحزاب السياسية إنما هي مفهوم سياسي حديث، لذلك فإنّ أدبيات الفكر الإسلامي القديم لا تتطرق إلى هذه المسألة بمدلولاتها المعاصرة، وعلماء الإسلام الأقدمون لم يبحثوها ضمن هذا الإطار.
ولكننا حين نستعرض التاريخ نجد الإمام علي (ع) أيام خلافته – مثلاً – لم يمنع من بروز رأي مخالف للمركزية الشرعية في الخلافة الإسلامية، ولم يمنعهم الإمام من ممارسة حقّهم في إبداء آرائهم، وجمع الناس حولهم ولكن حين تحرّكوا ضد الشرعية بعملية قتالية خرج لمحاربتهم.
والواقع أنّنا لا نستطيع أن نقول ابتداءً ومقدماً بأنّ الاختلاف في الرأي هو خير مطلق أو شر مطلق، وإنما هو خير إذا كان مصدراً للتنوع والإثراء، وسبيلاً إلى إظهار الحقّ. وهو شرّ إن أدى إلى الفرقة وتمزيق الصف، وعلى ذلك فلا مشكلة ولا غضاضة في مبدأ الاختلاف أو تعدد الآراء.
والتعددية السياسية تبتني بالأساس على اختلاف الرأي، فالتعددية الحزبية هي في واقعها اختلاف الرأي في القضية السياسية، كما أنّ للمواطن رأيه، وله حقّه في ممارسة أفكاره، شريطة أن لا يمس بالنظام العام، والأخلاق العامة. وهذا يقوم على مبدأ حقّ كلّ إنسان في المشاركة سواء على مستوى الأفراد، أو الجماعات المنتظمة.
الذي يجب أن نشير إليه أنّنا مع حقّ الاختلاف في الرأي، والتعددية، شريطة أن لا يمس أصلاً من أصول الدين، لأنّه لا اجتهاد في مقابل النص، أما في غير ذلك فلا مانع من تعدد الرأي في القضية الواحدة ما لم يجرنا إلى غياب جوهر القضية الأساس، وهو نكران ضروري من ضروريات الشريعة الإسلامية، أو ما يدعو إلى تفجير الفتن حينها يحكم العنوان الثانوي بمنع السير في الاختلاف المُمزق للأُمة، وتشتيت وحدتها.
التعايش مع الآخر:
إنّ هذا الموضوع لم يبحثه الإسلاميون ممن بحثوا بعض المواضيع التي اقتضتها السياسة المعاصرة، رغم أنّه وجد عملياً في السيرة النبوية، وفي الخلافات الإسلامية. فالتعايش مع الآخر تارة يكون مع المسلمين فيما بينهم، وأخرى مع غير المسلمين، ولا شك أنّ التعايش مع المسلمين مهما اختلفوا في وجهات النظر السياسية، أمر ضروري ويقره العقل والمصلحة العامة.
أما إذا كان المقصود به غير المسلمين فقد أقرت السيرة النبوية أنّ المسلمين تعايشوا مع أتباع الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية، وحتى مع بعض القبائل العربية المشركة، اللّهمّ إلّا أن تكون في حالة حرب على كيان العقيدة والأُمّة فحينها يكون من الصعب إقرار مبدأ التعايش مع الآخر.
وتوضح بعض المصادر: بأنّ أهل الذمة من المسيحيين والزردشتيين واليهود والصابئين كانوا يستمتعون في عهد الإسلام بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد في هذه الأيام، بحيث كانوا أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، بل إنّ بعض المسيحيين كانوا يحتلون أرقى المناصب في الدولة الإسلامية. فليس لأية حكومة أن تمنع أي إنسان يعيش في أرضها ما لم يسبب لها مشاكل تضر النظام العام.
إنّ رسول الله (ص) كان يوصي بالجار، وحدد الجار بأربعين بيت حول بيت المسلم، وقطعاً لم يشر في الحديث إلى مواصفات الجار حتى تنصرف التوصية بالجار المقيد بصفة ما، إنما أطلق الجار بدون تحديد. فيكون المراد مطلق الجار صالحاً كان أم غير صالح، فروح التسامح التي يريد الإسلام توفرها عند الفرد مسلماً كان أم غير مسلم هي الأساس في التعامل الإنساني على أن لا يكون مؤذياً يتسرب أذاه إلى الآخرين، حينها يكون دفع الضرر واجباً.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
Mohamed Amin
هذا النص يتحدث عن حق الاختلاف