هادي الصادقي/ ترجمة: عباس الأسدي
◄ليس من الصعب أن نقدم تعريفاً للمثقف بالمعنى الأكمل. ويمكن أن نستنبط من جميع الأوصاف والتعاريف التي تُطلق على المثقف، أصلاً أساسياً واحداً هو العقلانية. وبالامكان أيضاً اضافة أربعة أصول أخرى لتنظيم تحتها خصائص المثقف الحقيقي:
1- العقلانية: البصيرة والتعقل من أهم الشروط التي ينبغي توفرها في المثقف، ولا يمكن أن نطلق أبداً على الفرد كلمة مثقف إذا كان قليل العقل شارد الفكر، وهذا الشرط المهم والأساسي تضعه كل الأُمم الشرقية والغربية على حد سواء، من أجل أن تطلق مصطلح المثقف على رجالها؛ ولهذا يجب على المثقف أن يتأمل ويتدبر ويفكر بعواقب الأمور، ويقارع الأفكار الباطلة والخرافات، ويلتزم بالضرورات العقلية، ويتجنب الانقياد اللامنطقي للآخرين. كما يجب أن يرفق المثقف بالجاهلين، ويجالس فيتجنب الثاني ويلتزم بالأوّل؛ ولأنّه غير متخصص في جميع الأمور فهو مضطر إلى مراجعة أهل الفن والاختصاص وتقليدهم، وهذا التقليد ممدوح ومندوب إليه، في مقابل التقليد المذموم الذي يجب على المثقف الابتعاد عنه، كالتقليد في القضايا الفكرية الأساسية والعقيدة. ولابدّ من القول إنّ المرء الذي ينظر إلى أفواه الآخرين وأقلامهم ليأخذ عنهم العقيدة والرأي، دون أن يعمل فكره، ويتأمل فيها بما فيه الكفاية، ويعتنقها دون تفحص، هو بعيد عن الثقافة. كذلك من يحاول أن يتشبه بالمثقف المفكر دون أن يمتلك الصلاحية الكافية، فهو إنما يحط في وادٍ لا يستطيع اجتيازه، ويسير في خط يؤدي به إلى التيه فينكشف جهله لدى الناس. 2- الهدف والإيمان: لاشك أنّ الثقافة لا تنسجم مع الغموض والتردد – كما أسلفنا – والهرطقة الدينية، بل لابدّ للمثقف من انتماءه إلى مدرسة معينة، فالمهم أن يعتقد بشيء ويؤمن به ويلتزم بتوجهاته، بحيث يوجهه نحو هدف معيّن يحقق الآمال البشرية السامية. وبالطبع فإنّ الانتماء إلى مدرسة محددة يجب أن يستند على أساس عقلاني- إيماني، فالإيمان يعطي المرء شجاعة ابداء عقائده والدفاع عنها. أمّا الخوف فهو من أكبر الآفات التي اسقطت الكثير من المثقفين، وهذا الخوف على أنواع، فهو إما خوف من السلطة الاستبدادية، أو من الجو الغالب في نطاق فكري معيّن، أو من عوام الناس، أو من طبقة خاصة، أو من الاتهام بالكفر، أو التحجر، وما إلى ذلك ومهما يكن من أمر فإنّ المثقف يجب أن يتحلى بالشهامة والشجاعة، بحيث يستطيع أن يتحدث بالكلام الذي يريد دون وجل، ويلتزم بالهدف، ويطلب الحق، وإن كان في ذلك ضرره. وعلى المثقف أن يتحلى أيضاً بالالتزام وروح المسؤولية، ويحطم عن نفسه قيود الجاه والمال، وإلّا ابتعد عن مفهوم المثقف الفاضل الملتزم، واقترب نحو مفاهيم المرائي المحتال، أو الفنان المترف، أو المتعلم البذخ، أو الكاتب اللاهث وراء الشهرة والمال، أو السياسي الرذل، أو المفكر المنقطع عن الشعب. 3- العلم والوعي: من مقدمات الحالة الثقافية حب العلم والتفكر والعمل الفكري والمعرفة، والأدوات التي غالباً ما يتعامل معها المثقف هي الدرس والمدرسة والكتاب والمعلم ونحوها، وهو يتلذذ في بستان الفكر بتأهيل الذهن واعداد الذاكرة؛ ولا يحصر المثقف نفسه في نطاق تخصصه، وإنما ينطلق خارجه ليعالج مختلف المسائل الإنسانية، ويطّلع على شؤون العالم لكي ينتفع من تجارب الآخرين، حلوها ومرها، ويسخرها لصالح شعبه، ويرفع من مستواه الثقافي والعلمي، كما يجب على المثقف أن يكون مطّلعاً على قضايا شعبه، واعياً لمشاكله؛ ليفكر بحلها ويفكك عقدها. وفي مجال العلوم والمعارف ينبغي للمثقف أن يستلهم من ثقافته المحلية قبل أن يتجه نحو المعارف الاجنبية، ويسبر غور حضارته الدينية والوطنية قبل أن يطلع على العلوم والحضارة الجديدة. 4- السلوك الحسن: من الخصوصيات المهمة التي يجب أن يتحلى بها المثقف الحقيقي خصوصية الإصلاح، فهنالك الكثير ممن يدّعون الانتماء إلى صنف المثقفين، ولكن يقتصر نشاطهم على الثرثرة والكذب، فهم يفكرون جيِّداً ويتكلمون جميلاً لكنهم حينما يحين الجد وتدق ساعة العمل الحقيقي يبتعدون عن الميدان بمختلف الحجج والذرائع، فالمثقف الحقيقي يقارع الظلم ويتمرد على الجور، حتى اطلق البعض على المثقف لقب المتمرد الواعي، كما يجب على المثقف أن يقف موقف الطليعي في القضايا الاجتماعية، ويواصل معركته في الميدان السياسي دون خوف، لا أن يلتجئ إلى العزلة – كما هو حال بعض السياسيين – للحفاظ على سمعته وماء وجهه. والمثقف الحقيقي يجب أن يواجه السنن والتقاليد الخاطئة، ويكافح الجهل والخرافات، ويرشد الناس إلى العقل، ويبعدهم عن التقليد سواء القديم أو الجديد، فلا يحكم على كل ما هو قديم بالقبح أو الحسن دون العودة إلى العقل، وإنما عليه أن يقرر موقفه من القديم والجديد حسب ما يمليه عليه العقل، وكذا على المثقف أن يطلب تقدم المجتمع نحو الأهداف الإنسانية السامية، وإذا كان مؤمناً بالله فعليه أن يدعو إلى الله، وتقدم المجتمع نحو المزيد من العبودية له، واكتساب القوة للدفاع عن الدين الحق. كما أنّ المثقف الحقيقي يجب أن يكون شعبياً بما للكلمة من معنىً، فيضع يده في يد أبناء جلدته، ويحزن لحزنهم، ويعمل من أجلهم، ويعيش كأحدهم، ولا ينطلق في تعامله معهم من منطلق الفوقية، ويعتبر نفسه مُنزلاً من السماء. ومن أسباب انقطاع المثقف عن شعبه ظاهرة التقليد للمثقف الغربي، وكذلك الترف والبذخ، فإنّه يعتبر من آفات المثقفين؛ لأنّ أخلاق القصور لا تترك في ذهن صاحبها مكاناً للتفكير بعامة الناس، والاستئناس بهم، والألفة لهم، وتمنع المثقف من معاشرة المجتمع بمختلف طبقاته، حتى يبتعد رويداً عن قضاياه، ويصبح غريباً عليها؛ فظاهرة الترف يتبعها الغرور والتملق، والمداهنة والتطفل، والاستغراق في الذات، وانعدام الغيرة ونحو ذلك. 5- الحرِّية: ينبغي للمثقف أن يتصف بالفكر الحر، فالمثقف الحقيقي هو مَن يتحرر – في المرحلة الأولى – من قيود أهوائه النفسية، ويستسلم للعقل والمنطق؛ وهذا الأمر يتطلب جهداً ليس باليسير، ثمّ يتحرر – في المرحلة الثانية – من أهواء الآخرين، والعصبية القومية والطائفية والحزبية، ثمّ يتحرر من الأفكار المستوردة التي لا تنسجم مع الثقافة الوطنية والدينية. وفي الختام لابدّ أن نضيف أنّ المثقف بعيد كل البعد عن الجمود والسكون والسطحية؛ ولهذا نلاحظ أن بعض العلماء – رغم التزامهم وجرأتهم النابعة من إيمانهم – لم يستطيعوا أن يمارسوا دور المثقف، رغم أنّ الثورة الإسلامية أخذت تزيل تدريجياً هذا النقص عن هذا البعض، ليحل الوعي والمعرفة محل التحجر والتقدس، وتتعزز قدرتهم على رفع المستوى الثقافي والفكري في المجتمع، ليصبحوا من ثمّ بحق دعاة الاصلاح الاجتماعي، وتدبير شؤون المجتمع. هذا إذا أردنا ألا نخوض في حياة أولئك العلماء الذين بيضوا وجه التاريخ على مدى الزمان، وأغنوا الثقافة الإسلامية بتراث ضخم، ولازالوا يمدون الأُمّة بالعطاء الثر.► المصدر: مجلة رسالة الثقلين (مجلة إسلامية جامعة)مقالات ذات صلة
ارسال التعليق