• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

خلق الحياة من الماء

أ. د. نبيل محيي عبدالحميد

خلق الحياة من الماء
 ورد ذكر خلق الله سبحانه وتعالى من الماء في مواضع عديدة نورد منها التالي:

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) (الفرقان/ 54).

(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء/ 30).

(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) (النور/ 45).

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى) (طه/ 53).

 

بداية لابدّ لنا أن نعرف كيمياء الماء أو مما يتركب الماء؟

يترك جزئ الماء من ذرتين هيدروجين (H) وذرة أكسجين (O). هكذا نستطيع بسهولة تصور وجود الماء الأزلي قبل أن تُخلق كلّ الكائنات الحية على الأرض وليس بالضرورة كما اشترط بعض العلماء وجود حياة تسبق وجود الماء فعنصريه بفعل طاقة الطبيعة الهائلة يمكن أن يتحدا وينتج مركب الماء والعكس بالعكس.

ولو نظرنا للتفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل الكائن الحي ومدى أهمية الماء لوجدنا استحالة الحياة بدون الماء فعلاً.

فمثلاً لو تصورنا شكل الخلية وهي وحدة الحياة فهي عبارة عن جدار يحيط بمادة الخلية (السيتوبلازم) ويتوسطها ما يعرف بالنواة. وتحمل النواة المادة الوراثية والأوامر التي من خلالها تنجز كلّ الوظائف.

والمادة الخلوية أو ما يعرف بجسم الخلية (السيتوبلازم) عبارة من مواد كثيرة جدّاً مذابة في الماء وبدون الماء يحدث شلل تام في الحركة والحياة بالخلية. فلا يمكن انتقال المواد ولا حدوث أي تفاعل في وسط جاف مثلاً. حتى يوجد داخل الخلية نفسها عضيات صغيرة بها وظائف هامة لا يمكن أبداً أن تتم في غياب الماء.

 

ولنا أن نفهم ما هو المفهوم العلمي للهضم؟

الهضم هو التحلل المائي للمركبات المعقدة إلى مركبات أبسط يسهل استفادة الجسم منها. لنا أن نتصور أنّ الهضم ببساطة هو إضافة جزئ ماء للمركب المعقد ليدخل في تركيبه الكيميائي فيفصله إلى مواد بنائية هي وحدات أقل تعقيداً لذلك الهضم يعني تبسيط للأقل في وجود الماء.

والعكس بالعكس حينما تدخل المواد البسيطة للجسم أو يتم تخليقها في داخل خلاياه بطبيعة الحال يلجأ الجسم إلى تخزين ما زاد عن حاجته في صورة أكثر تعقيداً لتشغل حيزاً أصغر في الخلية تماماً كفكرة إدخار النقود فنحن نحوّلها إلى عملات أعلى في القيمة وأقل في الحجم وإلّا مَن يدخر مليار دولار أو جنيه كيف يجد ومن أين يجد لها مكان يسعها لو كانت بصورتها الفردية أقل من الجنيه أو أقل من الدولار؟؟!

هكذا عندما يقرر الجسم الإدخار يجمع المواد البسيطة وينزع منها الماء (أي ينزع عنصري الماء من كلّ مركب فيترك رابطة جديدة معروفة سلفاً للإنزيمات النازعة للماء) بالتالي يعود تعقيد المادة لإدخارها كما يحدث تماماً في إدخار الدهون والنشويات وغيرها بداخل الكبد والنسيج الدهني والعضلات وغيرها. ومن هنا نقول أّن سواء الهضم (التبسيط) أو الإدخار (التعقيد) لا يتم أبداً في غياب الماء.

وببساطة فإنّ تلك العمليات الأولية تعتبر أساس للحياة من هنا كانت الإشارة الصريحة في القرآن الكريم للزوم الماء لكلّ شيء حي.

ولو دخلنا بعمق أكثر إلى داخل الخلايا الحية نجد أنّ كلّ عمليات الأيض أي الاستقلاب أو التغيرات الحيوية (وهي التفاعلات اللازمة للحياة) نجد أيضاً أنّ جزئ الماء إما أن يدخل التفاعل أو يخرج منه وكلّ التفاعلات حتى في أدق وأصغر الأماكن داخل الخلية لابدّ أن تتم في وجود الماء. من هذه العمليات الأكسدة والاختزال والاحتراق بأنواعه وبناء وتطويل الأحماض الدهنية والسكريات، والنشويات حتى تخليق مادة الحياة وتكسيرها مرة أخرى (الحامض النووي).

ومن هنا كان التحكم في دخول الماء أو خروجه من ثقوب معينة داخل غشاء الخلية الخارجي مجال واسع جدّاً في بحوث الطب والعلاج مثل الأورام وتغيرات الطاقة ويوجد في ذلك كتب عديدة جدّاً. ثمّ لنا أيضاً في النبات عبرة كبيرة نستطيع نحفظ البذور لفترات كبيرة وعندما تتوفر ظروف الإنبات وعلى رأسها الماء تدب الحياة في المادة الكامنة وتنبت وتتحول إلى شجرة كبيرة.

وهنا نقرأ قوله تعالى:

بالطبع ورد ذكر أهمية الماء للحياة في عدد كبير من الآيات نورد منها فقط أمثلة كما يلي:

(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء/ 30).

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (البقرة/ 22).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام/ 99).

(وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5).

(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) (النور/ 45).

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (البقرة/ 22).

حتى السائل المنوي نفسه عبارة عن حيوانات خلوية تسبح في الماء ولا يمكن أن تكون لها أي فائدة مباشرة للإخصاب بدون الماء لدرجة أنّ الله سبحانه وتعالى أوجز السائل المنوي كلّه في الماء في كثير من المواضع منها ما يلي:

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (السجدة/ 8).

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (المرسلات/ 20).

ومعنى مَهِين: مني ضعيف والضّعف هنا لا يُفهم من ناحية أنّه خالٍ من التأثير بل يُقصد ربما مقارنة بطول الإنسان ووزنه وعدد خلايا جسمه فخلية واحدة (نصفها من الرجل والآخر من المرأة) ينشأ عنها كلّ هذا الجسم؟ تلك فعلاً مقارنة هائلة، فالجسم البشري يحتوي حوالي تريليون خلية خلقت من خلية واحدة في الأصل لأنّ الخلية جاء نصفها من الذكر والثاني من الأنثى فكوّنا معاً خلية كاملة واحدة كبداية للبشر فالمقارنة في النهاية هي مقارنة بين نصف الواحد الصحيح والتريليون فعلاً ماء مهين بل مهين جدّاً.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) (الفرقان/ 54).

والنسب يأتي من الذكور يناسب بهن والصهر من الإناث والمعنى هنا غاية الدقة في التصوير وفيه إشارة رائعة وبسيطة إلى الوراثة وبدايتها في الخلق ثم امتدادها إلى الأجيال وهنا يتجلى أيضاً أنّ البداية هي الماء سواء الذكرى أو الأنثوي الذي نفهمه أنّه الحيوان المنوي أو بويضة الأنثى.

وذكرهما سوياً هو أساس علم الوراثة فنعلم أنّ خلية الإنسان تحتوي على عدد 46 من الصبغات الوراثية (الكروموسومات) بينما تحتوي الأمشاج (الحيوان المنوي أو البويضة) نصف العدد أي 23 فقط وبعد الإخصاب يصبح العدد 46 وهو الأصل في الخلق أي بداية الإنسان من خلية واحدة.

وهنا تجدر إشارة علمية أنّ الحيوانات والنباتات البدائية وحيدة الخلية تحوي كلّ صفات حياتها المعيشية والوظيفية وحتى الوراثية في خلية واحدة فهي نموذج للحياة وفي الرتب الأعلى مثل الإنسان نموذج الحياة الكامل أيضاً في خلية واحدة والفرق الهام هو أنّ الإنسان يحتوي عدد أكبر بكثير من الجينات (المورثات) أي عدد أكبر جدّاً من الصفات الوراثية في الإبداع والذكاء والعواطف وغيرها ولابدّ لنا أن نفهم بطريقة أيسر معنى رائع للآية الكريمة:

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (الإسراء/ 70).

ولنا أن نفهم ذلك من أوّل خلق الله في الخلية برغم أنّ الشكل العام واحد والذي باستمرار يوحي بوحدانية الخالق.

ثمّ يعود سبحانه وتعالى للتأكيد على خلق الإنسان من الماء الممتزج من الرجل والمرأة المتدفق (دافق) الذي يخرج بسرعة من بين الصلب (ظهر كلٍّ من الرجل والمرأة) والترائب (عِظامِ كلّ البدن فيهما، والصُّلْبُ والترائب كنايةٌ عنه):

(فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق/ 5-7).

 

المصدر: كتاب الكيمياء في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top