• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دليل التربية والتعليم في القرآن/ ج (2)

أسرة

دليل التربية والتعليم في القرآن/ ج (2)
6- الوسائل التربويّة: لأنّ القرآن الكريم كتاب هداية، فهو – بالملازمة والضرورة – كتاب تربية، والآليّات التربوية في القرآن كثيرة متعدِّدة تحتاج إلى استقراء النظرية أو المذاهب التربوي في القرآن ممّا تكفّلت به بعض الدراسات البحثيّة المخصّصة. وفيما يلي ملاحم أو لقطات من المنهج التربوي في القرآن المجيد:   أ- الحوار: الحوار في القرآن أيضاً موضوع يحتاج إلى دراسة مستقلّة، وهناك العديد من الدراسات في هذا الشأن، لكن ما يهمّنا في هذا المقطع من الدليل هو أن نركِّز على الحوار التربوي في القرآن.   1- حوار الإبن إبراهيم (ع) مع أبيه آزر: قال تعالى: (إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) (مريم/ 42-45). التطبيق الحياتي: القرآن هنا يكسر العادة الجارية المألوفة، وهي أنّ مسؤوليّة التربية أبويّة فقط، ففي الوقت الذي يحتلّ فيه الإبن مكانة علميّة أو إيمانيّة أو هداية ربّانيّة لا يمتلك الأب منها شيئاً، فإنّ مسؤوليّة الإبن أن يُبادر إلى دعوة أبيه لما فيه خيره.   2- حوار إبراهيم (ع) الأب مع ابنه اسماعيل: قال تعالى: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 100-102). التطبيق الحياتي: الغلام الحليم هو الشاب الصالح الذي يرى أنّ استجابته لأبيه فيما يرضي الله تعالى هي استجابة لله عزّ وجلّ، فهو إذ يطيع أباه في المعروف إنّما يطيع الحقّ الذي أراد له الله اتِّباعه. فليس هناك إثنينيّة في الطاعة، وليس هناك طاعة للوالدين، بل هناك طاعة لله تعالى من خلال ما ينفِّذ الأبوان من أوامره – جلّ وعلا – وفيما يأمران به أبناءهما، وإلّا فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.   3- حوار نوح (ع) مع ابنه: قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود/ 42-43). التطبيق الحياتي: حرصُ الأب على إنقاذ ابنه من الهلاك فطريّ وإنسانيّ، فليس هيِّناً على الأب الصالح أن يرى ابنه يشذّ عن طريق الصلاح، فهو (يُقاتل) من أجل أن يدعو ابنه للرّكوب في (سفينة النّجاة). قال تعالى في قصة الأبوين اللّذين كانا يستغيثان بابنهما المشرك أن يؤمن: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ (من قبري بعد موتي) وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي (ماتوا ولم يعودوا) وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) (الأحقاف/ 17).   4- وصايا لقمان (ع) لابنه: قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 13-19). التطبيق الحياتي: ليس هناك شيء أعزُّ وأغلى على قلب الأب الصالح من أم تمتدّ رفقته المؤقّتة لأبنائه في الدنيا إلى رفقة دائمة في الآخرة ليلتئم الشّمل هناك على نحو أبدي، كما التأم الشمل هنا (في الدنيا) على النحو المؤقّت. والوعظ وسيلة تربوية لا تتبدّل مهما تطوّرت أساليب التربية، ولكنّها وسيلة تمشي على قدمين: الكلمة الصادقة النابعة من القلب والضمير، والموقف الصادق الذي يُعزِّز الكلمة فيكون التجسيد الحيّ هو الموعظة المتكاملة. وصفةُ الدخول إلى الجنّة يُقدِّمها لقمان لابنه هي وصفة عامّة وليست حصريّة، أي أنّها من كلِّ أبٍ صالحٍ لكلِّ ابنٍ صالح، وهي تشمل العقيدة، والعلاقات الإجتماعية، والإصلاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر والتواضع، والتهذيب الإجتماعي.   ب- السؤال والجواب: قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة/ 4). التطبيق الحياتي: العلمُ صناديقٌ مُقفلة مفاتيحها الأسئلة، والسؤال أسلوب من أساليب القرآن في التربية، فإثارة السؤال من خلال ما يدور في الذِّهن يعني اهتماماً خاصّاً بموضوع المسألة المُراد معرفة جوابها. الله تعالى ربى نبيّه (ص) بالإهتمام بالأسئلة التي تُطرح عليه، فهو حقّ الناس على العالم، وأن يبتدأهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، لتكون المعرفة متحرِّكة بين سؤال يطمح إليها، وبين مبادرة تستكمل الذي غاب عن السائل والأسئلة. ولا محرّمات أو ممنوعات أو إحراجات في الأسئلة، فهي مفتوحة بصراحتها كلّها على المعرفة بأبوابها كلّها. إنّ أسلوب السؤال والجواب هو من أصلح الوسائل التربوية في تعميق الفكرة في وجدان الإنسان، وهذا ما نلاحظه اليوم في الندوات والمؤتمرات والبرامج التي تنضِّج أطروحاتها من خلال أسئلة المشاركين أو المشاهدين أو المتلقِّين. وليس من مهمّة المربِّي الإجابة عن كلِّ الأسئلة وخاصّة ما لا يتعلّق منها بالحياة، أو ما يوصف بـ(التّرف الفكري)، فالقرآن يُعلِّمنا ويُربِّينا على أن نسأل عن القضايا الحياتيّة والمصيريّة، ولذلك نراهُ يختزل التفاصيل والجزئيّات في قصص الأنبياء والأُمم الماضية، ويُسلِّط الضوء ساطعاً على ما يهمّ الناس في مناهجهم الحياتيّة.   ت- القيمة الإجتماعية للإنفاق: قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261). التطبيق الحياتي: قيمة الإنفاق (صدقةً أو زكاةً أو أيَّ شكلٍ آخر) لا تتمثّل في ثوابه عند الله فحسب، بل بمردوداته الإجتماعية والتربوية، فهو إذ يُربِّي على التخلي عن حالة البُخل، وعلى مفهوم أنّ الإنسان مستخلَفٌ بما استُودعَ عنده من مال، يُحرِّك في الإنسان مشاعره الإنسانية لا من حيث حجم العطاء، بل من خلال قيمة وروحيّة العطاء بذاته، ولذلك ورد عن الإمام علي (ع) قوله: "لا تستحِ من إعطاء القليل، فإنّ الحرمان أقلّ منه". إنّ الإنفاق – كما في بعض التفاسير – يتحرّك من خلال روح العطاء في بُعدين: "البُعد الروحي الذاتي الذي يدخل في تكوين شخصية الإنسان في دوافعه وتحرّكاته، والبُعد الإجتماعي في ما تُحقِّقه عمليّة الإنفاق من عناصر الإستقرار والتكافل والأمن والقوّة للمجتمع، وتلك هي رسالة الإسلام في صناعة الإنسان الذي يخرج من قوقعة ذاته ليعيش هموم وقضايا مجتمعه من خلال الشعور بالمسؤولية لا من خلال الرغبة الآنيّة العابرة. وبموازاة هذه الروح التي تتحسّس الحرمان واللّهفة والضعف، يستكمل المربِّي – الإسلام – ذلك بأن تكون روحيّةُ العطاء متعاليةً خالصةً لا يشوبها (مَنٌّ) أو (أذى)، بل اعتبر ذلك مُبطلاً للصّدقة ومحبطاً للعمل الخيريّ. قال عزّ وجلّ: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة/ 263).   ث- التربية الروحية: قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/ 7). التطبيق الحياتي: يؤكِّد المربّون أنّ القناعة بالفكرة لا تكفي لوحدها في الإلتزام بها، ما لم يكن هناك دوافع أو عوامل نفسيّة مُحرِّكة لحبِّ الله – في الإتيان بما يُرضيه، وخوّفه تعالى – في اجتناب ما يُسخطه، أي لابدّ من استشعار الرّقابة الدّائمة على نوازعك ودوافعك وممارساتك السرِّيّة والعلنيّة من خلال الإحساس بالحضور الإلهي من جهة، وبالإحترام الإلهي من جهة ثانية. ومن الفهم القاصر القول إنّ (التقوى الروحية) تتحرّك بمعزل عن (التقوى العمليّة) فباقترانهما معاً يمكن الاطمئنان على نجاح التجربة الإسلامية وحمايتها من الذاتية أو الفئويّة.

ارسال التعليق

Top