- أوّلاً: دليل الأسرة:
1- تكوين الأُسرة:
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) (الفرقان/ 54).
التطبيق الحياتي: خلق الله تعالى من التقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة إنساناً، وجعل من هذا الإنسان صنفين: الذكر والأنثى، وجعل الذكر سبباً لـ (النسب)، وهو القرابة التي تكون بين الناس مع بعض.
وجعل من الأنثى سبباً لـ(المُصاهرة)، وهي الإرتباط الذي يُقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل إرتباط الإنسان بأقرباء زوجته، فهناك (نسب)، وهناك (سبب).
2- الزواج:
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف/ 189).
التطبيق الحياتي: غاية الزواج السكن النفسي، وإنجاب الذرِّية الصالحة، ولذلك اشترط الإسلام إختيار المرأة الصالحة لضمان الذرِّية الصالحة.
قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ...) (النور/ 26)، لا على نحو الجزميّة، بل على نحو الإختيار والتناسب.
وقال سبحانه: (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 3).
ولأنّ الإسلام يريد لبناء بيت الزوجية أن يدوم ويستمر، لم يترك العلاقة رهن التحكّم الذوقي بين الزوج وزوجته، بل تدخّلت يد اللطف الإلهي تضيف إلى البناء لبنات (المودّة) و(الرحمة) لئلاّ ينهار البناء أمام أوّل عاصفة، فقال عزّوجلّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).
أمّا تنظيم هذه العلاقة الإنسانية وتحديد حقوق الزوجة على الزوج، فتُبيِّنها الآيات التالية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء/ 19-21).
التطبيق الحياتي: إذا كانت (المودّة) و(الرحمة) هي الوجه الروحي للعلاقة الزوجية، فالإلتزامات المالية، هي الجانب المادي منها، فلا يكن ضعف المرأة سبباً لحرمانها من حقِّها المشروع، ولا مبرِّراً لإضطهادها في ما فرضه الله لها، أي لابدّ من أن تعيش أمناً إجتماعياً وإقتصادياً من خلال إرتباطها بشريك حياتها.
إنّ كلمات (كَرْهاً) و(لا تعضلوهنّ) و(أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) يختصرها قول (وعاشِروهنّ بالمعروف) بما يعنيه المعروف من إحترام مشاعر المرأة وعواطفها وشخصيّتها المستقلّة وتفكيرها وإرادتها.
إنّ ما حفظ للحياة الزوجية كيانها هو: (المودّة) و(الرحمة) و(المعاشرة بالمعروف)، لما لهذه القيم الإنسانية من قدرة على إيجاد التفاعل الإجتماعي بين الزوجين: حباً، وتفاهماً، وتعاوناً وإنسجاماً: (.. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ...) (البقرة/ 228).
ومن هنا فقد لخّص المشرِّع الإسلامي بناء العلاقة الزوجية على (الإمساك بمعروف) أو إنهائها على (التسريح بإحسان)، فكما كانت البداية طيِّبة، لابدّ أن تكون النهاية رفيقة، وهذا هو البُعد الإنساني للحياة الزوجية التي ما بُني في الإسلام بناءٌ مثلها.
أ) القوامة:
قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ...) (النساء/ 34).
التطبيق الحياتي: القوامة: القيام بأمر الغير في ما تحتاجه الحياة الزوجية من شؤون الإدارة والرعاية.
إنّ ترجيح بعض خصائص الزوجين على خصائص الآخر ليس ميزة أو تمايزاً بمعنى الأفضليّة، وإنّما هو إعداد كلّ زوج ليقوم بالدور المُعدّ له، فزوِّد بخصائص تُناسب هذا الدور ليس إلا، ولذك فالقوامة لا تعني (السِّيادة) و(السيطرة) ولا إلغاء شخصيّة المرأة، ولا إعتبارها تابعاً ذليلاً.
إنّ على الزوج أن يكفل لزوجته النّفقة في المعروف بحسب إمكاناته وبحسب ما تقتضيه حاجاتها، وما عدا الحقّ الجنسي، فلكلٍّ حرِّيته في أعماله وإهتماماته ومواهبه، وليس للرجل أن يفرض على زوجته القيام بإدارة البيت الزوجي إلاّ ضمن شرط بينهما، بل حتى حضانة الأولاد ورعايتهم هي من مسؤولية الزوج لا الزوجة، ولها الحق في أن تطلب أجراً على ذلك إحتراماً لعملها وقيمتها الإنسانية.
من ذلك نفهم أنّ العلاقة الزوجية علاقة روحية متحرِّكة على أساس إنساني: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُم وأَنْتُم لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187). وأنّ الرجل والمرأة سواء في التقويم من حيث المسؤولية وتوزيع الأدوار، أمّا إمتياز الرجل في قوله تعالى: (وللرِّجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة) (البقرة/ 228)، فهي القوامة التي شُرِّعت لتكون تنظيماً لقانون الأسرة.
ب) التعدّد (تعدّد الزوجات):
قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا) (النساء/ 3).
التطبيق الحياتي: كلّ حكم شرعي يُقيّم على أساس المصالح والمفاسد، والمضارّ والمنافع، فإذا غلبت المصلحة والمنفعة دخل الحكم في دائرة الحلِّيّة، فالأسباب الموجبة لتشريع تعدد الزوجات – كحالة إستثنائية – منطلقة من تقدير لحاجات حياتيّة، هي:
1- تثبت الإحصائيات بأنّ عدد النساء يفوق عدد الرجال طبيعياً، ممّا يجعل قسماً من النساء لا يملك فرص الزواج في حالات الوحدة.
2- الحروب تفني الرجال بأعداد كبيرة أكثر ممّا تفنيه من النساء، ممّا يجعل الحرب سبباً من أسباب مشكلة الوحدة، والتعدّد حلاً من حلولها.
3- حالة العقم التي تكون لدى الزوجة في الوقت الذي يشعر فيه الرجل بالحاجة إلى الأبوّة، ولا يريد الإنفصال عن زوجته لوجود الإنسجام بينهما.
أمّا لماذا التعدّد للرجل دون المرأة؛ فلأنّ المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك، لم يُعرَف الولد لمَنْ هو، إذهم مشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الإنسان والمواريث والمعارف.
إنّ تأريخ الرجل والمرأة هو تأريخ تعدّد في العلاقات الجنسيّة سواء في العلاقات الشرعية أو غير الشرعية، أمّا تعدّد الأزواج للمرأة فهو حالة شاذّة تأريخياً. والمرأة بطبعها ميّالة إلى العلاقة الموحِّدة لا العلاقات المتعدِّدة.
4- التشريع تشريع رخصة لا تشريع إلزام، فكلّ رجل وما سمحت له ظروفه، وكلّ رجل وما التزم بشرط أو قيد العدالة في الإنفاق.
- العلاقات غير الشرعية:
قال تعالى: (.. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ...) (المائدة/ 5).
وقال عزّوجلّ: (.. مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ...) (النساء/ 25).
التطبيق الحياتي: القناة الشرعية للعلاقة بين الجنسين هي العلاقة الزوجية المحلّلة التي ترتكز على العفّة في الإقتران، فلا زنا (علاقة زانٍ بزانية) ولا إتِّخاذ (الأخدان) أو ما يُعرف برفيق الفراش، أو الصديق الذكر بالنسبة للأنثى، والصديقة الأنثى بالنسبة للذكر، حيث يستمتع بعضهما ببعض جنسياً، بعيداً عن الإرتباط الزوجي، ممّا يعرِّفه البعض بـ(الزِّنا السرِّي).
إنّ تشريع التعدّد – الذي سبقت الإشارة إليه – هو الحلّ الأمثل لمشكلتي الزِّنا والعلاقات غير الشرعية، بل والمشكلة المثليّة الجنسية أيضاً، إلا بالنسبة لمَن هو مولع بالشّذوذ الجنسي، وإرتكاب المعاصي، فهو ممّن في قلبه مرض.
ت) العزوبة:
قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...) (النور/ 33).
التطبيق الحياتي: الذين يعيشون ظروفاً صعبة لا تُمكِّنهم من الزواج، مطالبون بالعفّة حتى انفراج الأزمة، إنّها معاناة نفسيّة شاقة تحتاج إلى ممارسة نوع من الصوم والصبر الذي يُحقِّق الغنى الروحي والمناعة النفسية ضد الإنحراف الجنسي الذي قد يُروي الشهوة ويُشبع الغريزة، لكنّه يُسبِّب ضعفاً أو نقصاً في المناعة: (.. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ...) (الطلاق/ 2-3).
جاء في الحديث عن النبي (ص): "مَن استطاعَ منكُم الباءة فليتزوّج، ومَن لم يجد فالصوم له وجاء"، أي حرز وحصن ووقاية.
وينبغي التنبيه إلى أنّ الصبر على الجوع أشدّ من الصبر على ممارسة الجنس، فالجنس وإن كان كالجوع غريزة، لكنّه ينفعل بالخيال وبالإثارة الذهنية أكثر.
ج) النّشوز:
قال تعالى: (... وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا...) (النساء/ 34).
التطبيق الحياتي: النشوز: العصيان، والإستكبار، والإرتفاع على الزّوج، وقيل: هو بغضها لزوجها وترفّعها عن طاعته.
هذه وصفة علاجيّة لمشكلة المرأة المتمرِّدة على زوجها في حقوقه الشرعية اللازمة عليها بما نصّ عليه عقد الزواج.
فيجب الإستفادة من الطّرق النفسية والتوعية الثقافية، وتنبيه المرأة عقلياً وعاطفياً، واللجوء إلى الموعظة قبل كلّ شيء في تذكير المرأة وإرشادها إلى الموقف الصحيح.
أمّا في حال نشوز الزوجين، أي في حالة الشِّقاق أو النِّزاع المشترك، فالحلّ يختلف، يقول تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا...) (النساء/ 35).
التطبيق الحياتي: الأسلوب هنا في المعالجة هو (مجلس التحكيم العائلي)، باختيار شخص أو أكثر من أهل الزوج، مُطّلع على ظروفه النفسية والعائلية والإجتماعية، وإختيار شخص أو أكثر من أهل الزوجة، بنفس المواصفات، ليدرسا المشكلة من جميع جوانبها، ويتداولا إمكانيات الحلّ، ومحاولة التوفيق وإرجاع الحياة إلى مجاريها، لأنّ الطرفين المباشرين قد يكونان في حالة إحتدام نفسي لا تجعلهما يُفكِّران بعقلٍ بارد، الأمر الذي يجعل الحكمين في هدوء نفسي وعقلي أكبر لمناقشة ومعالجة المشكلة.
ح) الطلاق:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (الطلاق/ 1).
التطبيق الحياتي: عندما يضيق الزوجان ذرعاً ببعضهما، وتفشل طرق الإصلاح بينهما، لكون المنفذ الوحيد للخروج من الأزمة هو الطلاق، فهو حل أيضاً، ولكنّه يأتي في تسلسل الحلول آخرها، أي بعد أن تُستنفد جميع الوسائل، وهذا يعني أنّ تفاقم المشاكل وتعقّدها قد وصل حدّاً لا مجال لتفادي الخطورة فيه إلا بالمخرج الأخير وهو الطلاق، على طريقة آخر الدواء الكيّ.
إنّ موانع الإستمرار بمشروع الزواج كثيرة، وغالباً ما يكون الطرفان سبباً في العلاقة مرحلة قطع العلاقة، وقد يسيء أحد الطرفين لعلاقته بالآخر فلا يجد هذا بدّاً إلا فصم العلاقة، ولذلك قيل: لا تكفي (الكفاءة الشرعية) في الزواج، بل لابدّ أيضاً من توفّر (الكفاءة الفرعية)، أي التماثل والتشابه في الأمور الأخرى بين الطرفين.
أمّا عدّة الطلاق، فلحفظ النسل، واتِّضاح وضع المرأة من حيث الحمل وعدمه، وتوفير فرصة جيِّدة للرجوع عن الطلاق والعودة إلى الحياة الأولى، ولكي تندمل الجروح النفسية التي خلّفها الطلاق، وحتى تكون لدى المُطلّق أو المطلّقة فرصة مراجعة الأخطاء وعدم التسرّع في الإقدام على زواجٍ آخر، كما قد يكون التسرّع سبباً في فسخ الزواج الأوّل، ولذلك كان عليها أن تنظر ثلاثة قروء (حيضتان) حتى يجوز لها الزواج.
وبالنسبة لعدّة المتوفّى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشرة أيّام، لبعض الأسباب المتقدِّمة وإحتراماً لفترة العشرة الزوجية.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة/ 234).
3- الأولاد والبنات:
قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 31).
التطبيق الحياتي: كان الأولاد يُقتلون في الجاهلية خوف الفقر وخاصّة صاحب العيال الكثيرين الذي يحسب أنّ أي مولود إضافي يُشكِّل عبئاً مالياً إضافياً، ويجري قتل الأولاد اليوم عن طريق الإجهاض إستغناءً عن ولد إضافي يُضاف إلى حزمة الأولاد، أو تخلّصاً من عار وفضيحة كما بالنسبة لإبن السِّفاح (اللّقيط) ولد الزِّنا.
والحال أنّ الحياة والأولاد هبة الله ولا يجوز قتلهما؛ لأنّ قتلهما جريمة لا تُغتفَر، فالله لم يخلق مخلوقاً إلا وتكفّل برزقه، فما هي إلا تخويفات شيطانيّة من الفقر.
أمّا تنظيم النسل، فيرى بعض الفقهاء أنّ أساليب منع الحمل ليست قتلاً للحياة، بل منعاً لها من أن تتحقّق، ويرى أنّ جواز التنظيم ينطلق من متطلّبات مرحلة تقتضي التقنين وهو حالة طارئة وليس حكماً شرعياً.
هذا في قتل الأولاد الذكور والإناث مخافة الفقر، وأمّا في قتل الأولاد والإناث مخافة العار، فيقول عزّوجلّ: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل/ 58-59).
التطبيق الحياتي: حالة الوأد (قتل البنت أو دفنها وهي حيّة)، تُقابلها اليوم حالة الإجهاض أو إسقاط الجنين بعد نفخ الروح، والفرق أنّ السبب الدافع في السابق هو خوف العار من أن تُسبى البنت ويُنتهك العِرْض، أمّا اليوم فالدّافع التخلّص من رقم إضافي لكمِّ البنات جهلاً بأنّ البنت التي تُقتَل وهي جنين قد تكون أفضل البنين والبنات، وأنّها قد تجلب من الخير ما قد لا يجلبه الذكر.
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...) (الأنعام/ 140).
- عداوة بعض الأزواج والأولاد:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن/ 14).
التطبيق الحياتي: الإسلام لا يريد للإنسان أن يسترسل في عواطفه العائلية ويستغرق في مشاعره الأسرية ويغفل عن أنّ أقرب القريبين له قد يكونون أعداءً له، كما كانت زوجة نوح وابنها عدوّين لنوح (ع) في رسالته، فالإستسلام العاطفي للنّسب أو للزوجيّة قد يُسبِّب للإنسان مشاكل هو في غنى عنها، لاسيّما وأنّ العداوة هنا قد لا تكون عنفيّة، وإنّما فكرية أو مواقفيّة، فقد يمنعان الرجل من عمل صالح، إذ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
يقول الإمام علي (ع) في العلاقة الإيمانية بين ربِّ الأسرة وأسرته: "لا تجعلنّ أكثر شغلكَ بأهلك وولدك، فإن يكن أهلك وولدكَ أولياء الله، فإنّ الله لا يُضيِّع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله، فما همّك ومشغلك بأعداء الله"؟!.
- ثانياً: دليل النّظام الإجتماعي العام:
1- التبادل الحضاري:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...) (الحجرات/ 13).
التطبيق الحياتي: المجتمع الإنساني متنوِّع أنساباً وأعراقاً ولغات وجغرافيات، وهو تنوّع إثراء لا تنوّع إختلاف وإصطراع، وتنوّع تكامل وتبادل وتفاعل لا تنوّع تحاقد وتناحر وإحتراب، فالتذكير بالخلق من ذكر وأنثى، يعني أنّ الناس نفسٌ إنسانيّة واحدة مهما اختلفت خصائصهم، الأمر الذي يُحقِّق (الوحدة) ضمن (التنوّع)، أي أنّ الإنسانيّة تتحد في مشتركات كثيرة، وما هذه (الشعوب) و(القبائل) التي تُمثِّل إختلاف الناس في الخصائص، إلا حكمة بالغة، وهدف عظيم، وغاية من غايات الوجود الإنساني على ظهر الأرض.
هذا (التعدّد) داعية وحدة وإنسجام وحوار وتعارف، وإغناء للتجربة الإنسانية، ممّا يجعلنا نقطع أن ليس هناك حضارة نقيّة، بمعنى أنّها لم تأخذ ولم تعطِ لغيرها من الحضارات، فكلّ الحضارات التي سادت الأرض هي نتيجة التفاعل الحضاري بين زميلات حضارية، تزامت فتزاملت، فتكاملت.
خذ مثلاً من أمثال الشعوب، ستجد أنّها مربوطة بسلكٍ يجمعها ويُنظِّمها، وخذ حكايات وقصص الشعوب، سترى أنّ روحاً عامّة تحكمها، وتأمّل في أيّة ناحية أخرى، ستجد أنّ ثمّة لغة مشتركة موحّدة بين هذا الكمّ الكبير من اللغات واللّسانيّات، فالإنسان أخو الإنسان.
إنّ الذين يُطالبون بإلغاء الخصوصيّات، يريدون تدمير ثروة إنسانية هائلة، وأن يحوِّلوا نعمة (الثراء الحضاري) المُتعدِّد المتنوِّع والمختلف إلى نسخ متكرِّرة تشبه الزّي الموحّد، أو دجاج الدواجن الذي لا تقدر على تمييز بعضه عن بعض.
إنّ نكهة الإنسانيّة وطعمها ولونها ورائحتها، تتجلّى في هذه الفسيفساء، وهذه اللوحة التي ينطلق كلُّ لونٍ فيها بجرس موسيقيٍّ متناغم. يقول الشاعر:
إذا كان أصلي من تُرابٍ فكلُّها بلادي، وكلّ العالمين أقاربي
فما دام الأصلُ واحداً، ففيمَ التفاخر باللون الأبيض، أو العِرْق النّقي، أو الدم الأزرق؟! ولأنّ المنشأ الإنساني واحد، اعتبر الإسلام الناس سواسية كأسنان المشط.
ولقد كانت آخر كلمات النبي (ص) هي هذه الرسالة الإنسانية: "أيها الناس! ألا إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ على عجميٍّ ولا لعجميٍّ على عربيّ، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقّوى، ألا هل بلّغت؟! قالوا: نعم! قال (ص): ليُبلِّغ الشاهد الغائب".
وتبليغ الشاهد الغائب يعني إيصال الرِّسالة لكلِّ الأجيال، وليس مَن سمع الخطاب فحسب.
أمّا القيمة الوحيدة التي تُعدّ معياراً للتفاضل الإنساني، هي (التقوى)، أي أنّ الأفضل هو (الأصلَح) لنفسه وللنّاس من خلال ما عقده من صلح مع الله وتصالح مع الحياة.
2- الإصلاح مع الناس:
قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).
التطبيق الحياتي: الإصلاحُ بين الناس أوسعُ دائرة ونطاقاً من الإصلاح بين الإخوان، هو لمسة ولمحة، ونفحة قرآنيّة تهبُّ على الساحة الإجتماعية كلّها.
جاء في التفاسير: "كأن يجتمع الرجل الخيِّر بالرجل الخيِّر، فيقول له: هلمَّ نُعِنْ فلاناً، أو نُخَفِّفْ معاناة فلان لما به من حاجة، ونخفي أمر مساعدتنا له عن أعين الناس لحفظ كرامته، أو هلمَّ يا أخي لنصنع المعروف الفلاني، والدّعوة له، والحث عليه.
أو لنُصلِح بين فلان وفلان، فقد علمتُ أنّ بينهما نزاعاً، إلى آخره من الأعمال الصالحة التي تُرضي الله تعالى ورسوله، وما هدت إليه العقول السليمة، والفطر المستقيمة".
إنّ مساحة الإصلاح بين الناس واسعة سعة العلاقات الإجتماعية كلّها بما فيها العلاقات الدوليّة، وبهذا يمكن أن نفهم لماذا كان (صلاح ذات البَيْن) أي العلاقات البينيّة، أفضل من عامّة الصلاة والصِّيام، ولماذا كان في الصدارة من إهتمامات الإسلام.
3- السنن الإجتماعية التأريخية:
قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران/ 137).
التطبيق الحياتي: السُّنّة: الطّريقة المجعولة ليُقتدى بها.
التأريخ كلّه دروس وعِبَر، ومَن يفهم التأريخ على أنّه مجرّد قصص تُروى وتُسْرَد للتسلية، وأنّها طُوِيَت فلا تُعاد، لا يفهم التأريخ حقّ فهمه. يقول الشاعر:
ليسَ بإنسانٍ ولا عاقلٍ **** مَن لا يعي التأريخ في صدرِهِ
ومَن دَرى أخبار مَن قبلَهُ **** أضاف أعماراً إلى عُمرِهِ
لقد رحلت الأُمم الماضية، وماتَ شخوصها ورموزها، لكنّها تركت لنا مادّة حياتية يمكن أن تغتني حياتنا بها. وخير طرق توظيف التأريخ الطّريقة التي اعتمدها الإمام علي (ع) في استلهامه لدروسه ومواعظه وعِبَره.
يقول (ع) في وصيّته لإبنه الإمام الحسن (ع): "أي بُني! إنِّي وإن لم أكن عمّرتُ عمرَ مَن كان قبلي، فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكّرتُ في أخبارهم، وسرتُ في آثارهم، حتى عدتُ كأحدهم، بل كأنِّي بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عمّرتُ مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفتُ صفوَ ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصتُ لكَ من كلِّ أمرٍ نخيله (المختار المصفّى)، وتوخّيتُ لك جميله، وصرفتُ عنكَ مجهوله".
فالعلاقات الإجتماعية وما فيها من صراع بين الحق والباطل وما يتبع ذلك، قد جرى على قواعد ثابتة. إقتضاها النظام العام، والحكمة الإلهيّة العادلة، أي أنّ مشيئته سبحانه فيما تجري وفق سنن حكيمة، مَن سارَ على هديها ربح وظفر وإن كان وثنيّاً أو مُلحِداً، ومَن خالفها وعاكسها وتنكّب عنها فشل وخسر وإن كان موحِّداً مؤمناً.
إنّ سنن التأريخ الإجتماعية ليست مقتصرة على هلاك الأُمم واستئصالها، بل على إنتصارها وإزدهارها أيضاً، أي انّ القرآن يوظِّف التأريخ توظيفاً تربوياً.
قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46).
ومن تلك السّنن:
أ) قانون التغيير الإجتماعيّ:
قال تعالى: (.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11).
التطبيق الحياتي: عملية التغيير الإجتماعي لها جانبان: ربّاني لاحق وإنساني سابق. أي أنّ مصير الإنسان محكومٌ لإرادته، وهو القادر على تغيير واقعه بتغيير أفكاره ومفاهيمه ومشاعره وعلاقاته التي تُحرِّك حياته.
وهذا معناه أنّ عملية التغيير في الخارج هي تبع لعمليّة التغيير في الداخل، ولذلك قيل: إنّ الإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه. أمّا الطرف الثاني في معادلة التغيير، فهو التوفيق والتسديد والمدد الرباني لِمَن شاء أن يستقيم، والإمهال والأخذ والإستبدال، لِمَن شاء أن ينحرف، فهو تغيير شرطيّ.
وهي ليست قصّة الإنسان الفرد فقط، بل قصّة الأُمم والشعوب أيضاً، وكلمة (قوم) في الآية تشير إلى التغيير الإجتماعي بصفة أساس.
يقول تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 53).
واللافت في السنن الإجتماعية التأريخية أنّها (مطّردة) أي مستمرّة، فكما حكمت الأُمم التي سبقتنا، كذلك هي اليوم تحكمنا، وأنّها (ربّانيّة) أي أنّها قرارات ربّانية لها طابع غيبي يستهدف شدّ الإنسان في حالي (المحنة) و(المنحة) أو في السراء والضراء إلى ساحة القدرة المطلقة. وأنّ للإنسان دوره وإختياره في كون كائناً حرّاً، مُريداً مختاراً.
ب) قانون وفرة الإنتاج مع عدالة التّوزيع:
قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16).
التطبيق الحياتي: شرط الوفرة في الإنتاج هو الإستقامة على خطِّ الله، أي أنّ هناك ترابطاً عضوياً وثيقاً بين (المادِّي) و(المعنوي) وبين (الغيب) وبين (الشهود)، تأمّل في ما قاله نوح (ع) لقومه:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12).
لاحظ العلاقة بين الإستغفار كقرار وإرادة إنسانية بالعودة إلى الإستقامة، وبين وفرة الإنتاج في الزّرع والبساتين والأنهار والأموال والبنين.
قال عزّوجلّ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ...) (الأعراف/ 96).
ت) قانون التوفيق الربّاني:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).
التطبيق الحياتي: هناك تلازم بين العمل في سبيل الله والمدد الإلهي عنايةً ورعاية، ولطفاً وتأييداً، وتسديداً ومباركة، وإبقاء الأثر في الأرض، تنتفع به الأجيال، فيدخل في رصيد الذي سنّ سنّة حسنة، أو ترك صدقة جارية.
فالهداية إلى سبيل الله هي نتيجة لجهاد العامل في سبيل الله، فأيّ خدمة حياتية أو نفع إجتماعي يُراد به تخفيف أو رفع معاناة الناس، يُقابل بفتح الآفاق والسبل أمام العامل، فيُرزق من حيث لا يحتسِب، ويتعلّم من حيث لا علم، ويزداد من حيث لا تراكم.
يقول سبحانه: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران/ 125-126).
لابدّ من اليقين أنّ المدد الإلهي لا يأتي للمجاهد في ساحة المعركة فقط، بل للعامل في ساحات العمل أيضاً.
ث) هلاك الأُمم بفسق وفجور المُترفين:
قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء/ 16).
التطبيق الحياتي: (إنّ التّرف يزيل النِّعم).. فلقد ثبت من خلال الدراسات التأريخية التي اهتمّت في بناء الحضارات وسقوطها، أنّ ذلك خاضع لسنّة ربّانيّة، حيث عُدّ التّرف والإنحطاط الأخلاقي سبباً بارزاً من أسباب انهيار الحضارات.
لقد كانت الميوعة والفساد والإنفلات والبذخ والتّرف والإنصراف عن ذكر الله عاملاً أساساً من عوامل ضياع الدولة الإسلامية في الأندلس، حتىّ أنّ أهل (بلنسية) بالأندلس حينما قصد الإفرنج مدينتهم، خرج إليهم أهلها بثياب الزِّينة، فكانت وقعة (بطرنة) التي انهزم فيما المسلمون. يقول الشاعر:
إذا دفنَ الفضيلة أيُّ شعبٍ **** فلا عجبٌ إذا أمسى دفينا
هي الأخلاقُ إن فسَدَتْ بقومٍ **** فأدخَلَهم سِجلَّ الهالِكينا!!
ج) لكلّ أُمّةٍ أجل:
قال تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (الحجر/ 4-5).
التطبيق الحياتي: كما أنّ موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس، كذلك الأُمم أيضاً لها آجالها المضبوطة، وهناك نواميس تُحدِّد أجل هذه الأُمّة أو تلك، كما ذكرنا التّرف والإنحطاط الخُلقي، ومنها: الظّلم والإستكبار والطغيان، ومنها: مخالفة منهج الله تعالى في الفطرة، ومنها: التفرقة والتشتّت.
- ثالثاً: دليل الحكم والإدارة والسياسة في القرآن:
1- البيعة:
قال تعالى في (بيعة الرضوان): (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح/ 18).
التطبيق الحياتي: البيعة أسلوب من التعاقد بين (القائد) وبين (الأُمّة)، هي تعطيه (الشرعية)، وهو يمنحها (الإخلاص)، وهي تمنحه حقّ حكمها، وهو يمنحها حقّ الإلتزام ببرامج العمل لخدمتها.
يقول الشهيد السيد محمّد باقر الصدر – رضي الله عنه -: "إنّ التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصيائه، تأكيد من الرسول على شخصيّة الأُمّة، وإشعار لها بخلافتها العامّة، وبأنّها بالبيعة تُحدِّد مصيرها، وأنّ الإنسان حينما يُبايع يُساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه".
وربّما يُقابل البيعة اليوم صيغة الإنتخابات التي تُحدِّد المجالس التشريعية والسّلطة التنفيذيّة، وفي كلّ الأحوال يبقى دور الشعب دور الحاكم الأوّل، فهو الذي يمنح الحكّام شرعيّتهم سواء كانوا نوّاب الشّعبِ أو رئاسة جمهوريّة أو رئاسة حكومة، وكما أنّ دور (المبايع) هناك لا ينتهي عند خطّ المبايعة، فإنّ دور المنتخِب هنا، ليس مجرّد التصويت فقط، بل المتابعة والمساءلة والتعاون مع مرشّحيه لإنجاح مشروع الحكم.
2- الحكم والسلطة:
قال تعالى: (ألَيْسَ اللهُ بأحْكَمِ الحاكِمِين) (التين/ 8).
التطبيق الحياتي: ينطلق الله في (حُكمه) من (حكمته)، وذلك درسٌ في التدبير والإرادة والحكم، ممّا يجعله خاضعاً للمصلحة، قائماً على العدل والإتقان، ولذلك عدّ القرآن الكريم حكم الناس بغير ما أنزله الله ظلماً وطغياناً: (باحْكُم بَيْنَهُم بما أنْزَلَ الله) (المائدة/ 49)، وفي تساؤل إستنكاري: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50).
إنّهما حكمان: إمّا حكمٌ بشريعة الله، وإمّا حكمٌ بالأهواء. ذلك منهجٌ ثابتٌ وشاملٌ وكامل، وهذا منهج متغيِّر ومتقلِّب وناقص، ولذلك كان إلتزام الحقّ والعدل في الحكم، ركناً أساسياً من أركانه: (.. وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...) (النساء/ 58).
إنّ علاقة الحاكم بالمحكوم يُحدِّدها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...) (النساء/ 58). فأداء الأمانة لا يتعلّق بالودائع المالية فقط، بل بما أودعه الناخب من أمانة (قيادته)، بيدِ مَن أعطاه صوته وزمامه، أي بشرط قيامه بالمسؤولية خير قيام وبذل الوسع في ذلك.
وفي موازاة هذا الخط الرباني، يتحرّك القضاء الإسلامي: (.. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...) (النساء/ 59). فالمرجع في فضِّ النِّزاعات والفصل بين الحق والباطل هو: الرجوع إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه (ص)، كونهما المصدرين المعصومين، ومخالفتهما هو الإحتكام إلى الطاغوت: (.. يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ...) (النساء/ 60).
والمراد بالطاغوت الحكم القائم على الطغيان والتشريعات المنحرفة الباطلة، ولذلك قرنَ الله تعالى بين (الإيمان) وبين (الحكم بما أنزل): (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...) (النساء 65).
رُوي أنّ رسول الله (ص) قال: "الحكمُ حكمان: حكم الله وحكم الجاهليّة، فمَن أخطأ حكم الله بحُكم الجاهلية".
وعلى هذا، فالجاهلية ليست مرحلة زمنيّة طُويت بشرائطها وعاداتها وتقاليدها وأحكامها، بل هي خطّ فكريّ يتحرّك في كلِّ وزقت.
إنّ سؤال رسول الله (ص) يفترض أن يكون سؤال كلّ مسلم: (أفَغَيْرَ اللهِ ابْتَغِي حُكْماً) (الأنعام/ 114).
ويجب الإنتباه إلى أنّ الأنبياء (ع) لم يكونوا مُبلِّغي رسالات فقط، وإنّما امتدّت مسؤوليّاتهم إلى التطبيق والتنفيذ: (آتَيْناهُم الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوّة) (الأنعام/ 89). ولعلّ اقتران تعليم (الكتاب) و(الحكم) الجمع بين (النظريّة) و(التطبيق).
3- الشورى:
قال تعالى: (.. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).
التطبيق الحياتي: مبدأ المشاورة منهج حياتي يُفصح عن حقيقة أنّ "مَن شاور الناس شاركها عقولها"، أنّ تقليب الأمر على وجوهه، والنظر إليه من زوايا مختلفة، أقرَب للصواب من التفرد بالرأي.
إنّ الرجوع إلى فكر الآخرين وتجاربهم وخبراتهم إضافة نوعيّة لما عند القائد من ذلك كله، فإذا كان التوجيه الإسلامي للقيادة والمعصومة (النبوّة) والتي لا تحتاج إلى فكر أحد، هو إعتماد الشورى لإعمال فكر الآخرين أيضاً، فكيف الحال في غياب العصمة؟
وبالتأكيد فالشورى في السلوك العملي وليس فيما فيه نصّ ثابت، هي إعداد لقيادات مستقبليّة، فضلاً عن تحقيق أكبر قدر من الصواب في قرارات القيادة الراهنة.
ولذلك قال (ص) في الشورى: "جعلها الله تعالى رحمةً لأُمّتي، فمَن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومَن تركها لم يعدم غياً"! فهو (ص) كان يستشير أصحابه ثمّ يعزم على ما يُريد، وبالتالي فالإسلام يرفض إستبداد القائد في شؤون الحياة ومصالح الناس.
4- القانون:
قال تعالى: (.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا...) (المائدة/ 3).
التطبيق الحياتي: لأنّ الإنسان قد يكره شيئاً وهو خيرٌ له، وقد يُحبّ شيئاً وهو شرّ له، أي أنّه يعيش المزاجيّة في كثير من الأحيان، والله تعالى يعلم ما يُصلح الإنسان وينفعه، كان لابدّ من قانون يُقنِّن له حياته في أفضل وأسعد نظام، وتلك مهمّة التشريع في شموله لخصوصيّات الإنسان من مأكل وملبس وزواج مقتنيات.
إنّ الفرق بين القانونين: الإلهي والوضعي، أنّ الثاني يُحدِّد علاقة الفرد بالمجتمع، ولا دخل له في حياته الخاصة، أمّا القانون الإلهي فينطلق من فكرة أنّ الإنسان (عبدالله)، فهو يتلقّى رُخصه منه، أي أنّ الشريعة – بما هي أحكام وقوانين – هي التي تُنظِّم لك شؤونك الشخصية والإجتماعية بكلِّ ما يُحقِّق لك السلامة ويجنِّبك الأخطار والأضرار، ولذلك يجب أن تكون طاعة الله – فيما أمر به ونهى عنه – تسليميّة، فالخير ما اختاره الله، وهو أدرى بمصلحة الإنسان من الإنسان نفسه.
5- المصلحة الإسلامية:
قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9).
التطبيق الحياتي: تتّحد علاقتك بالآخرين ممّن لا يدينون بدينك من خلال المصلحة الإسلامية العُليا، فالله تعالى يريد للقاعدة الإنسانية أن تفتح المجال واسعاً للعلاقات الإيجابية، ففي الحديث: "خالِط الناس ودينَك لا تكلمنّه"، أي انفتح على الجميع شريطة أن لا يكون انفتاحك على حساب التفريط بدينك وقيمك ومبادئك.
إنّ الذين نختلف معهم في الرأي ولم يتحرّكوا ضدّنا بطريقة عدوانيّة، ويقرّؤون بمدأ التعايش السلمي، مبرورون في الإسلام، أي انّ المسلمين مُطالَبين بتقديم كل ما هو خيرٌ لهم، وأن يتعاملوا معهم بالعدل.
أمّا الأعداء الذين يناهضون حرِّيتنا في الدين والعقيدة والعمل، ويتحالفون ضدّنا، فالموقف منهم هو المقاطعة ورفض الإستسلام لمآربهم.
أي أنّ هناك فرقاً في التعامل بين (الكافر المسالِم) وبين (الكافر المحارِب)، وعلى ضوء هذا التصنيف يجري التعامل مع كلِّ طرف بمقتضى المصلحة الإسلامية العُليا التي لا تريد مقاطعة الآخرين، ولكنّها لا تقبل أن يستغلّها الآخرون.
6- القوّة العسكرية:
قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ...) (الأنفال/ 60).
التطبيق الحياتي: القوى التي تعمل ضدّ الحق وتمنعه من ممارسة حرِّيته كثيرة، فلابدّ من قوّة في مواجهة التحدِّيات المضادّة لردعها، فليس أسلوب الرِّفق والحوار ناقصاً في كلّ الأحوال، وإلا لما كانت هناك حروب بين الشعوب.
كلمة (وأعدُّوا) بما تعنيه من (إستعداد) والتجهّز بـ(العدّة) اللازمة للمواجهة لا تعني المبادرة للعدوان، وإنّما هي إجراءات احتزازية لكبح جماح عدوان الآخرين، وإذا كانت لديك – أنتَ المسلم – ضوابط إيمانية تُقيِّدك، فقد يكون الآخر متفلِّتاً منها، ولا تقف بوجهه حتى شرعة حقوق الإنسان.
إنّ الإسلام كما يريد لك أن تكون الممانع القوي المقاوم، لا الضعيف المهزوم المستسلم، يريد لك أن تكون رافع راية السِّلم والسلام في العالم. وبالتالي، فإعداد القوّة تدبير وقائي لجعل العدو يتردّد في العدوان عليك؛ لأنّه يحسب حساب قوّتك، ويقظتك وإستعدادك، وهذا ما نفهمه اليوم من رسالة (المناورات العسكرية).
ولا ينبغي أن يقتصر فهم القوّة على القوّة الميدانيّة (العسكرية) فقط، بل توفير كل مستلزمات القوة بما في ذلك القوة المعنوية والمواجهة النفسية، والتطوّر العلمي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي.
إنّ شعورنا هو (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا...) (الأنفال/ 61)، فإذا أبدى الآخرون الإستعداد للعيش بسلام، فنحنّ أُمّة السلام، ولابدّ أن يكون ذلك من خلال معاهدات ومواثيق، لئلاّ نكون ضحية الخداع والتغرير.
7- حقوق الإنسان:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...) (النساء/ 1).
التطبيق الحياتي: النفس الواحدة – بما تُمثِّله من الذكر والأنثى – تجعل الإثنين اللذين هما في الأصل واحد، أمام حقوق موحّدة وواجبات موحّدة بحسب ما يُسِّر كل واحد له.
وإنّ أكبر حقّ تمتاز به هذه النفس الواحدة هو (حق الحياة)، الذي يقوم على مبدأ الكرامة الإنسانية، والتي يتفرّع منها حقّ المساواة وحقّ الحرِّية، كونهما حقّين طبيعيين مُلازمَين لطبيعة الإنسان.
يقول د. وهبة الزحيلي: "الكرامة الإنسانية مصدر الحقوق الأساسية كلّها، فهي دليل إنسانية الإنسان الذي تُميِّزه عن سائر المخلوقات".
وجاء في مقدمة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان): "الإعتراف بالكرامة المتأصِّلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية، هو أساس الحرِّية والعدل والسلام في العالم".
وفوق هذا وذاك، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمنا بَني آدَم) (الإسراء/ 70).
التكريم هنا ليس مجرّد لطف إلهي، بل هو خطّ تشريعي يؤسِّس لكلِّ ما يُعزِّز هذه الكرامة، ويرفض كل ما يؤدي إلى إهانتها. وقد التفت بعض المفسِّرين إلى أنّ بعض الأعمال كجرِّ العربة التي يركبها الناس من قِبَل إنسان بدل الحصان – كما في الهند – مُنافٍ للكرامة الإنسانية، وقِسْ على ما سواه.
ومن أروع ما تحت أيدينا من نصوص تُكرِّس أهميّة حقوق الإنسان في الإسلام، ما ورد عن الإمام علي (ع): "جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدّمة لحقوقه، فمَن قام بحقوق عباد الله، كان ذلك مؤدِّياً إلى القيام بحقوق الله".
فما هي يا تُرى لائحة حقوق الإنسان في القرآن؟
1- حق الإختيار:
قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).
التطبيق الحياتي: حرِّية الإختيار بين الخير أو الشر، والطاعة أو المعصية، خطّ أصيل في الفهم الإسلامي، الذي ينفي الإكراه والجبريّة، فالمختار مسؤول، أمّا المُكرَه فهو واقع تحت ضغط يمنعه من ممارسة هويته، وبالتالي فلا يصحّ ولا يجوز أن نُحاسبه على أعمال أُجبر عليها.
هذا مع الأخذ في الإعتبار أنّ هناك مروِّجات لإختيار الأصلح والأرشد والأنفع، فالعقل يدلّ على ما هو الحسن وما هو القبيح، والرِّسالات تُعتبر فرقاناً بين ما هو حقّ وما هو باطل، والرُّسل هداة إلى طريق الرشاد، فمن استجاب بإرادته إلى الخير نجا وفاز، ومَن استجاب بإرادته إلى الشر هلك وخسر: (قَد أفْلَحَ مَن زَكّاها وَقَدْ خَاب مَن دسّاها) (الشمس/ 9-10).
فإذا اختار إنسانٌ طريق الخير، كان عليه أن يفي بإلتزاماته وشروطه وتعليماته كمَن ينتمي لجامعة ما هو ضوابطها ونظامها الداخلي الذي يسري على جميع طلابها، أي أنّ لك أن تختار الجامعة من بين عدد من الجامعات، فإذا وقع الإختيار على أحدها، وجبَ عليك أن تلتزم بمقرّراتها.
2- حق التعبير عن الرأي:
قال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1-4).
التطبيق الحيتي: (علّمهُ البيان)، أودعَ فيه قابليّة النّطق كي يُعبِّر عمّا في عقله من فكر، وفي قلبه من عواطف، وفي نفسه من مشاعر إيجابية أو سلبيّة، وبهذا البيان يستطيع الإنسان أن يتواصل مع مجتمعه، فيتبادل الرأي، ويتعاطى الفكر، ويعبِّر عن حاجاته وطلباته ورفضه وقناعاته.
فلكلٍّ حقّه في التعبير عن رأيه – حتى وإن خالف آراء الآخرين – ولكن ليس من حقِّ الإنسان أن يكون مُتعصِّباً لرأيه، فليس هناك مَن يمتلك الحقيقة لوحده. ولذلك كانت لفتة القرآن رائدة في مفهوم الحوار: (وإنّا أو إيّاكُم لَعَلَى هُدى أو في ضَلالٍ مُبين) (سبأ/ 24)، أي أن تضع نفسك – أنت صاحب الحق – على سواءٍ واحدٍ مع الآخر لتكون الحقيقة بنت الحوار.
3- حق الأمن والأمان:
قال تعالى: (الذي أطعَمَهُم مِن جُوعٍ وآمَنَهُم مِن خَوْف) (قريش/ 4).
التطبيق الحياتي: "حقّ (الأمن) أن تعيش إنساناً آمناً في سربك وأهلك وجماعتك ومجتمعك، وحقّ (الأمان) هو عهد يدخل بموجبه الكافر المحارب للدولة الإسلامية في ذمّة المسلمين، فيصبح بموجبه معصوم الدّم والمال. والأصل في مشروعيّته، قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ...) (التوبة/ 6).
أمّا حقّ الأمن، فقد كفلهُ الله تعالى من خلال إحترام حقّ الحياة في قوله عزّوجلّ: (.. مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...) (المائدة/ 32)، أو من خلال إعتبار حرمته أعظم من حرمة الكعبة، وأنّ الكعبة لو هدمت حجراً حجراً، كان أهون على الله من أن يُراق دم امرئ مسلم.
بل إنّ الأمن والسّلام مطلوبان لكلِّ الناس، لذلك ورد أنّ المسلم ليس فقط الذي سلّم المسلمون من يده ولسانه، بل سلم الناس كلّهم من شروره.
4- حق السّكن والمأوى:
قال تعالى: (وَمساكين تَرضَوْنَها) (التوبة/ 24).
التطبيق الحياتي: إذا كانت نملة سليمان تُخاطب أخواتها في الدخول إلى مساكنها، وإذا كان تعالى أوحى للنحل أن تتّخذ من الجبال بيوتاً، فمن باب أولى أن يكون لأكرَم مخلوق مسكنه ومأواه الذي يسكن ويستريح إليه، ويستتر فيه من فضول الآخرين.
إنّه حق من حقوقه وحاجة من حاجاته الأساسية أن يأوي بعد نهار عمله إلى بيتٍ يأويه، ويلوذ به، ويستجمّ فيه، ويختلي بأهله وأولاده فيه، ويستقبل ضيوفه، ويجد فيه مأمنه، فحتّى (أهل الصُّفّة) ضعفاء وفقراء أهل المدينة من العزاب، كان النبي قد بنى لهم صُفةً (سقيفة) ملحقة بالمسجد النبوي، يأوون إليها إذا جنّ الليل، فلا يمكن للإنسان أن يعيش في العراء مشرّداً.
إنّ علاقة الإنسان بمنزله هي علاقته بأرضه وبإستقراره، والإسلام يحترم هذه العلاقة، ومن دلائل ذلك، إحترام حرِّية الإنسان في داره، فلا يُخرَج منها قهراً بدون حق، وإذا انتُهِكَت أو اغتُصِبَت قاتلَ دونها.
5- الحقوق المالية:
قال تعالى: (وآتُوهُم مِن مالِ اللهِ الذي آتاكُم) (النور/ 33).
التطبيق الحياتي: المالُ مالُ الله، وقد جعل الإنسان مستخلفاً فيه، فملكيّته للمال إعتباريّة، وحقّ المال هو الإنفاق على الأهل والعيال، وأن توصل به الرحم، وتُبرّ به الأخوان، وتواسى به الفقراء ، فمعنى أنّ المال لله أنّه يجب أن يكون جارياً أيدي الناس لا مُتكدِّساً عند فئةٍ أو طبقةٍ معيّنة.
يقول عزّوجلّ: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 19).
فلا يحقّ لك أن تبخل بمالك، فملكيّتك للمال مسؤوليّة؛ لأنّه أمانة إلهية وضعها بين يديك للإنفاق على إحتياجاتك، ولمشاركة الآخرين فيه فيما زاد عن ذلك.
يقول النبي (ص): "لَمْ نُبْعَث لجمعِ المال، ولكن بُعِثنا لإنفاقه".
إنّ المشاريع الخيريّة من بناء دور ومساكن، وتزويج الشبّان، وفتح مشاغل أو معامل لتشغيل الأيدي العاملة الفقيرة، ونشر الثقافة الإسلامية، وبناء المساجد والمدارس الدينية، من بعض بركات هذه المال المنفق في سبيل الله، فهو من أهمّ طرق التكافل الإجتماعي، الذي لا يترك عجلة من عجلات الحياة واقفة أو متعطِّلة، بل يريد لها كلّها أن تدور.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
مصطفى سعيد
موضوع العلاقات الاجتماعية مهم وحساس خصوصا لان الدين الاسلامي حث على العلاقات الاجتماعية في اطار معتدل ومفيد للجميع.
أمير فؤاد
الحمد لي شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية وانا حريص على ذلك.