للدعاء في شهر رمضان الكبير مساهمة فعلية في تهيئة الجو الروحي، والصفاء القلبي الذي يجعل النفس الإنسانية مستعدة دائماً لتقبُّل عطاء الصوم، وهذا يحصل، بتوفير الجوِّ الذي تعود فيه الروح إلى براءتها الصافية فتبكي وتتضرّع وتشكو وهي في هذه الحالة تُعبِّر عن ضعفها أمام الجبّار الخالق، وهو الضعف الوحيد الذي يشعر معه المرء بالإعتزاز، فنرى الدعاء هو الذي يقوم بتوفير مهمة التعبير عن هذا الشعور وهذه الحالة. "سيدي، أنا الصغير الذي ربّيته، وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الطفل الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي أمَّنته". "إلهي، لم أعصك حين عصيتك وأنا بربويتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لقوبتك متعرِّض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي، أعانتني عليها شقوتي". وأيضاً بالحثِّ على التوبة وتطهير النفس، "أدعوك يا سيدي بلسانٍ قد أخرسه ذنبه، ربِّ أناجيك بقلب أوبقه جرمه، أدعوك يا ربِّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيتُ مولاي ذنوبي فزعتُ، وإذا رأيتُ كرمك طمعتُ، فإن عفوتَ فخير راحم، وإن عذّبتَ فغير ظالم". ويمكن أن تصل لحظات التوجه والعروج النفسي إلى درجات رفيعة، فلا يمكن للحرف أو الكلمة أن يُعبِّران عنها بشيء، وذلك في سكنات الليل البهيم، والسَحَر الهادئ الصامت، حيث تنهال الدموع وتتكسر الكلمات على الشفاه وتتصاعد الآهات والإعترافات للخالق المنعم، إنها قمّة الإستعطاف من العبد في جوٍّ هو القمّة من القرب الإلهي. الدعاء تغذية وتنمية الشعور بكل الأحاسيس والإشارات التي من شأنها رفع المستوى النفسي إلى درجات القرب من الله. فهي تُربِّي في الإنسان الإرادة وتدفعه لطلب العون على النفس دائماً. "وأعنِّي على نفسي بما أعنت به الصالحين على أنفسهم واختم عملي بأحسنه".
وهي تُذكِّره بالنعمة، وتدفعه لحمد الله وشكره عليها، "إلهي، ربّيتني في نعمك وإحسانك صغيراً، ونوّهت بإسمي كبيراً، فيا مَن ربّاني في الدنيا بإحسانه وفضله ونعمه، وأشار لي في الآخرة إلى عفوه وكرمه، معرفتي يا مولاي دليلي عليك، وحبّي لك شفيعي إليك". وهي تُنمِّي لديه الحسّ الأخلاقي بالمواساة والتعاطف ومشاركة الآخرين من الأحياء والأموات في عواطفهم ومشاعرهم. "أللهمّ أدخل على أهل القبور السرور.. أللهمّ أغنِ كلّ فقير.. أللهمّ أشبع كلّ جائع.. أللهمّ اكسُ كلّ عريان.. أللهمّ اقضِ دين كلّ مدين.. أللهمّ فرِّج عن كلّ مكروب". وتجعله يستعيذ بالله من النواقص، "أللهمّ إنِّي أعوذ بك من الكسل والفشل والهمِّ والجبن والبخل والغفلة والقسوة والمسكنة والفقر والفاقة وكّل بليةٍ".
وهي تذكر الإنسان بيوم القيامة وأهله، بتصوير رائع مؤثِّر في دعاء السَحَر، "فما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عُرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرةً عن يميني وأخرى عن شِمالي، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني، لكل امرئ يومئذٍ شأن يُغنيه، وجوهٌ يومئذٍ مُسفرةٌ ضاحكةٌ مستبشرةٌ، ووجوه يومئذٍ عليها غَبَرَةٌ تَرهَقُها قترةٌ". "أللهمّ إنِّي أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذُّل في النار". وهي تؤكِّد في النفس الإخلاص التام، "وأُبَرِّئُ قلبي من الرِّياء والشكِّ والسمعة في دينك حتى يكون عملي خالصاً لك". وهي بتربيتها العقائدية تُركِّز معنى العبودية المطلقة له تعالى: "الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذل وكبِّرهُ تكبيراً.. الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها.. الحمد لله الذي لا مضادّ له في ملكه ولا منازع له في أمره.. الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه ولا شبيه له في عظمته.. الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده الظاهر بالكرم مجده".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق