• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رؤى تأملية.. في الحب والجمال

حنا مينه*

رؤى تأملية.. في الحب والجمال
◄إلى التي كانت، وما كانت، وظلّت، في المبتغى، حلماً يراود، وإلى التي، في أنق الجمال، كانت، وستبقى أنقاً في الجمال، لأنّها، في الرجوة الشهاء، تُعطي الرجوة أن يكون لها شذى وردة الثلج، النادرة بين الورود، ومن المجرّة، تتدلّى عناقيد ضياء، بها، ومعها، تستنير دنيانا، بعد جهمة نهاراتنا والليالي، جراء العقل والتعقل معاً، اللذين هما، في الوطن العربي الكبير، آفة ما نحن فيه من نازلة الخطوب، حلقة بعد حلقة بعد حلقة، تُمرح بطلاء الذهب، تمويهاً على ألسنة الساسة، بينما هي مسرطنة في حديدها الذي يغتاله الصدأ، وتتدحرج على سلّم الجحيم، بعد أن فقدت الخطابات السياسية صدقيتها، وصارت، في الوهم، وهماً يُراد له أن يخفي عورات الأكاذيب. الله! يا الله، متى تمن علينا، في مزدلف النقع، بملْد من الجنون؟ ومتى، نحن الخراف، نبقى خرافاً، وطوبى للخراف؟ ولماذا لا نجترح، في العميات، نعمى اختراق المألوف، وقتل العادية، وجز رقبة البلادة، بساطور جزار؟ وإلام تبقى ضحايا العقل النتن، الذي ثار على نتنه سبارتاكوس منذ آلاف السنين؟ إنما بليتنا، في هذا الشرق، هوعقلنا، فلنخلع نيره عن رقابنا، حتى لا يبقى المسّاس في جنباتنا، ونحن نحرث، في مطاوعة بلهاء، الأض الصخرية، والدماء تنزّ من رؤوس أناملنا، كرمى للذين يقاتلون من أكبادنا، ويرديدوننا أن نحجد الألم، ونكتم السهام، فلا نثب على الأذى، والوثوب عليه تراتيل ماجدة، ممجّدة، منضّرة، متضوّعة بين أرض وسماء!. قال بدوي الجبل: يا من سقانا كؤوس الهجر مترعة *** بكى بساط الهوى لما طويناه إنني، وأنا أبن الثمانين، اياسر إلى طي صفحة الهوى، إلا أن هواي يأبى طي صفحته، وهذا يعود إلى شباب الروح، وشيخوخة الجسد، فالروح لا يزال لها عتب على الجمال، وذلك من حقّها، ومن حقّ أرواح المسنّين مثلي، إنّ وجدوا، إن يعتبوا على الجمال، ارتفاعاً إلى الأعالي، وإرضاء للأرواح التي هي في شباب دائم، رغم شيخوخة الأجساد، وقد نفذ أحمد شوقي إلى سرّ هذه الحقيقة بقوله: سلوا قلبي غداة سلا وتابا *** لعل على الجمال له عتابا ويُسأل في الجوادث ذو صواب *** فهل ترك الجمال له صوابا؟ وكنت إذا سألت القلب يوماً *** تولى الدمع عن قلبي الجوابا ولي بين الضلوع دم ولحم *** هما الواهي الذي ثكل الشبابا أنتم، وأنا، ونحن جميعاً، لنا عتب على الجمال، وهذا العتب هو مرض الحب اللذيذ وإنّه لسعيد من ابتلي به؛ وأقلّ سعادة من شفي منه بسرعة، وتعيس كل التعاسة من لم يصب به، مثلي أنا، الذي لم يعرف الحب إلا في رواياته والقصص، وربّما كان اعترافي هذا موضع شك، إلا أنّ الحقيقة هي الحق، فليصدقها من شاء منكم، وينكرها من شاء أيضاً. إنّ الحبّ مرض لذيذ، وهناك حرب غير معلنة بين قبيلتي الرجال والنساء حول هذا الموضوع، فإذا جزّانا الكل إلى الفرع، وحصرنا الأمر بين الزوجين، في البيت الواحد، كان الذي يحبّ أقل هو الأقوى، والذي يحبّ أكثر هو الأضعف، وذلك بسبب مرض الحب، لدى الزوجين معاً، وهذا قدر من القدر، لا رادَ فيه، ولا شافع له، ونصيحتي أن تحبّوا أقلّ، ليكون مرضكم أخفّ، وعندئذ تكونون في الأقوياء، ولكن بغير لذاذة!. تسألونني عن الحب، الذي هو موضوعي المفضّل، والذي قاربته، في كلّ ما كتبت، وما أزال أقاربه في هواجسي الروائية والقصصية، وها أنا أجيبكم: القلق هو المحرّض على الحب والإبداع، والطمأنينة قاتلة الحب والإبداع، وكم من فتى وفتاة، كانا يحب أحدهما الآخر، وبعد الزواج، انتفى القلق، حلت الطمأنينة، مات الحب، أو تحوّل إلى حبّ من نوع آخر، هو حبّ إنشاء الأسرة والفرحة بالأبناء، فإذا لم يكن ذلك كذلك، وقع الطلاق، أو حلّ الجفاء والنكد، أو لاذ الزوجان بالصبر والتصبر، وأخذ كلّ منهما التضحية لحسابه. هناك جبل، والمحبان في السفح، فلا خوف، عند الصعود، من الفراق، لأنّ الخلاف يُسوّى غالباً، فإذا بلغا الذروة كان الانتشاء الذي لا يصمد أمام الحركة، في قانونها المضاد للسكون، وعلى المحبين، هذه المرّة، الانحدار من الجانب الآخر للجبل، وفي انحدارهما يصبح الخلاف البسيط مركّباً، والغلطة كفْرة، والمداراة موقتة، والفرقة متوقعة، مهما يُبذل من جهد، للتحمّل على مضض، أو ضبط الأعصاب، أو المكابرة، أو إبداء الليونة والمرونة، من هذا الطرف أو ذاك. الشاعر ديك الجن كان الأضعف في الحب، التهم حبيبته ليستريح، فهل استراح؟ أحياناً يرغب الحب الأضعف، أن يأكل حبيبته القوية ليستريح، لكنه لا يستريح.. هناك الندم وعذاب الضمير، أما الشاعر الآخر، الرائع، وصفي قرنفلي، فقد هتف: "يا شعب، يا شعبي، وبعض القول لا يحكى فيضمر" ونحن، والأجيال من بعدنا الذراري، سنظل نردّد هذا البيت من الشعر، لأنّ وصفي كان منا، كان شاعرنا، وكان في الحب على سر كتيم، عبثاً حاول ذووه والأصدقاء، النفاذ إليه. لقد أقعد المرض وصفي قرنفلي سنوات، ولم يغادر فراش الفالج إلا إلى مثواه الأخير، وكان في الكهولة إذا لم أقل الشيخوخة، إلا أنّ روحه ظلت شابة، فالروح، في الفيزيولوجيا، تبقى دائماً في شباب، بينما يشيخ الجسد، وعن هذا، وفي ارتباط مع الحب، أرغب أن أقارب، قليلاً، فلسفة الروح والجسد. في علم النفس، هناك نقطة غاية في الأهمية، أطلقتُ عليها اسم "خبث اللاشعور" وقد جرى نقاش طويل، وما يزال، بيني وبين أطباء الأمراض العصبية والنفسية، حول هذا الخبث اللاشعوري، الذي ينكر بعضهم وجوده، لأنّ الكتب التي تبحث في "سيكولوجيا" الإنسان، من فرويد إلى يونغ، تركز على مبدأ الأنا العليا، وعلى الشعور واللاشعور، متجاهلة خبث اللاشعور، الذي قد يكون متضمناً في مقولات نفسية أخرى، وليس له استقلالية في ذاته!. لقد كتبت، حتى الآن، ما يزيد على أربع وثلاثين رواية، ودون علم النفس، لا يمكن للروائي، أن يفهم، ويطوّر، مع نمو السياق والشخصيات، نمو الحالة النفسية، لكل شخصية مع ذاتها، وفي فرادتها، على كثرة ما في كل رواية من شخوص أساسية وجانبية، ومن يتعامل مع الرواية، في انبثاقها حدثاً، مبنياً على الواقع، وعلى التجربة والمعاناة في هذا الواقع، واستيقاظها بعد هجوع في قاع الذاكرة، يدرك أن عليه، بداية ونهاية، ألا يهمل الأشياء الصغيرة، التي تصبح في دلالتها، أشياء كبيرة، سواء في مساندتها لأبطال الرواية، أو في إغناء الخط الأساس، الذي تكون الخطوط الجانبية في خدمته إذا صح التعبير، وقد أبلغتني سيدة تشتغل على رواياتي، في رسالتها لنيل الماجستر في الأدب، أنّ الدكتور عبده عبّود نصحها قائلاً: "إذا أردتِ أن تفهمي بعمق، ما كتب حنا مينه في الروايات التي بين يديك، إِدرُسي علم النفس أوّلاً". وسواء كانت هذه النصيحة واقعة، أو متخيّلة فإنّ الإلمام بنوازع النفس البشرية، وبطبائع الحيوان والنبات، تبقى ضرورية، مطلوبة لذاتها كثقافة، ومطلوبة، بشكل أكبر وأعمق، في رسم الشخصيات، ورصد تنوعاتها النفسية التي لا حصر لها، ومن بين هذه التنوعات، خبث اللاشعور الذي كثيراً ما يُهمل، وخبث اللاشعور ليس بسيطاً كما نظن للوهلة الأولى، فهو يندس في الشعور نفسه، ويستخفي في طياته، فنحن قد نساعد امرأة ما، قائلين في سرائرنا: هذه مساعدة لوجه الله الكريم، لكننا، في خبث اللاشعور، نساعدها لشيء آخر، يتكشف فيما بعد، فإذا هو غاية، أو قصد، أو نازعةُ تقرُّبٍ لصيد ما، كما العنكبوت الذي ينسج شباكه لأمر يعرفه، هو اصطياد فريسته. إنّ خبث اللاشعور يتجلى عند الشيوخ، بأكثر ما يتجلى عن الشباب، فالشباب يفوز ببغيته، بأسرع، وأسهل، مما يفوز بها الشيخ، الذي تظل روحه طامحة إلى الجنس وغيره، بينما يخونه جسده في الجنس وغيره، وهذا ما أريد التركيز عليه، فالروح تبقى شابة مهما تقدم العمر بالإنسان، وفي شبابها الذي يبقى حتى النفس الأخير، تطمح الروح دائماً إلى البقاء، وهذا مشروع جدّاً، ما دام الطموح صنو الأمل، أو عينه، إلا أنّ الجسد يخون طموح الروح، ومن هنا حاجة هذ الجسد إلى المنشّطات، والمقوّيات، ومن هنا وعي مراكز البحوث الطبية، بما أسميته شباب الروح، وشيخوخة الجسد، حيث أقبلت على صنع العقار المقوي، سواء على شكل حبوب أو غيرها، فانتعشت آمال الشيوخ، في استعادة شباب الجسد، ووقف انهزامه أمام شباب الروح. قد لا يكون أمير الشعراء أحمد شوقي، ملّماً بمقولة شباب الروح وشيخوخة الجسد هذه، لكنه، من خلال تجربته الشخصية، أو رصد تجارب الشيوخ، واتته فكرة الاشتهاء إلى الأخرى، حين لم تكن الحبوب المقوية قد اخترعت بعد، وتبدّى له الجمال الجسماني، في الأنثى وغيرها، وبدافع استشفافي من ذلك، وضع قصيدته التي مطلعها كما أسلفت: سلوا قلبي غداة سلا وتابا *** لعل على الجمال له عتابا ومَن منّا، نحن الشيوخ، الذين، كما في القرآن الكريم. رُدوا "إلى أرذل العمر" ليس له بغية في الجمال ما تزال ناراً خفيفة أو متضرّية بين الضلوع؟ ومَن منّا، في الحلم أو اليقظة، لا يعتب على الجمال، إذا مرّ به الجمال؟ إنني، في قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي، أتوقف عند البيت الرابع: ولي بين الضلوع دم ولحم *** هما الواهي الذي ثكل الشبابا أتوقف عنده معجباً، دَهِشاً، لما فيه من اعتراف صريح وصحيح، بأنّ الذي ثكل الشباب هما الدم واللحم، أي الجسد الذي خان شباب الروح، وأعرف، كما يعرف القارئ الكريم، حكايات وحكايات، عن شيوخ خانهم جسدهم، وظلت روحهم شابة، وبتحريض من هذه الروح، بكوا شبابهم الغارب، أو أقدموا على زيجات غير متكافئة، من حيث فارق السن، أو تحسروا حسرة الكي بالنار، لأنّهم لا يستطيعون ترميم جسومهم، بالمقويات والمنشطات، وبالحبوب الكفيلة، مع الخطر، باستعادة أجسامهم قوتها ولو لوقت قصير، فلجؤوا إلى عزاء الصبابة، ولعلَّ لفظة الصبابة كانت، بدءاً، هي التعبير عن هذا العزاء. في كتاب "الأغاني" لأبي فرج الاصفهاني، كثير عن الروايات والنكات عن الشيوخ الذين يتصابون، والتصابي، بمعنى البصبصة على النساء، مرذول غالباً، وإلى يومنا هذا، وتصابي الرجل العجوز مذموم، ويُنظر إلى الشيخ المتصابي، نظرة فيها القدح، وفيها التشهير، وفيها الدعابة، أو النكتة البذيئة، وفي الأمثال الشعبية المتداولة، هذا القول: "شيئان أضربُ من ينحْ، شيخ تصابى، وصبيٌّ تَمَشْيَخْ!" ورغم كل المذمات والأمثال، والنكات، فإنّ الشيوخ يتصابون، يبصبصون، يتحسّرون على قوة الشباب، التي ثكلها الجسد، وبعضهم يغامر، حتى لو شكلت مغامرته فضيحة، فيتزوج، وهو في أرذل العمر، فتاة في أوّل العمر، دون أن يؤثر فيه، أو يصدّه عن بغيته، لوم أو عذل، ورحم الله ابن زريق السمّاك الذي قال: لا تعذليه فإنّ العذل يولعهُ *** قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعهُ جاوزتِ في لومه حداً أضرَّ به *** من حيث قدرت أنّ اللوم ينفعه وبعضهم يضع كلمة النصح، بدل كلمة اللوم، والفارق هنا بسيط، لأنّ في النصح لوماً، أحياناً كثيرة، والعكس صحيح. تبقى مسألة بحاجة إلى إيضاح، وهي أنّ التصابي ينصب على العجائز من الرجال، بأكثر مما ينصب على العجائز من النساء، والسبب في ذلك أنّ المرأة تفقد رغبتها في الوصال في حدود الخمسين فما فوق، أما الرجل فتبقى لديه هذه الرغبة إلى التسعين فما فوق!.►   *حنا مينه: أديب وروائي عربي سوري. يعتبر من الرواد المؤسسين للرواية العربية.

ارسال التعليق

Top