• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صفات النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) الإنسانية

عمار كاظم

صفات النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) الإنسانية

يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن صفة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، من خلال ما يثيره في النفس الإنسانية من البشارة والخوف، من خلال صفته كبشير ونذير: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الأحزاب/ 45-46)، فهو الداعي إلى الله برسالته، وهو المبشّر بالجنّة لمن آمن وأطاع، وهو المنذر بالنار لم كفر وعصى، وهو الشاهد على الناس فيما يتحركون فيه على خطِّ الاستقامة أو الانحراف، ليشهد أمام الله بكلّ ما رآه. وهو السِّراج الذي يضيء للناس برسالته من خلال الرسالة التي كلّها نور وضياء، ولذا كان دوره أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، لأنّه السِّراج المنير بعقله وقلبه وروحه وحياته. ويصوِّر لنا القرآن أيضاً كيف كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدَّث مع الناس ليربطهم بالرسالة، بعيداً عن أيّ تأثيرٍ آخر، لأنّه لو جاء وبيده خزائن الأرض، لقيل إنّ الناس اتبعوه لماله، ولو حدَّث الناس بالغيب، لقيل إنّه استلب وجدانهم من خلال الغيب الّذي يترك تأثيره في نفوسهم، ولو كان ملكاً، لقيل إنّ ملائكيّته هي التي تركت تأثيرها فيهم.

ففي الحقيقة، إنّ الله أراد للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتحرّك الناس مع الرسالة، بعيداً عن أيّ تأثيرٍ آخر، وأن يقول للإنسان بأنّ لك عقلاً تفكّر فيه، وأنّ لك عينين تبصر بهما، وأذنين تسمع بهما، ففكّر بعيداً عن أيّة مؤثرات خارجية وعن أية أوضاع غيبيّة.. فالنبوّة غيب، لأنّها مرتبطة بمعنى غيبيّ، وهو الوحي الذي ينزل من السماء، ولكنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرد للناس أن يؤمنوا به من أجل وضعٍ غيبيّ، بل أن يؤمنوا به من خلال عقل يفكّر، فالله يحدِّثنا عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ ـ لا أمنّيكُم بخزائن الدُّنيا ـ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ـ إلّا بما يلقيه الله إليَّ من شؤون غيبيّة ـ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام/ 50)، (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) (الكهف/ 110). لذلك، خاطبوني بما تخاطبون به البشر، وإنّني أتحرك فيكم برسالتي على أساس أنّني بشر ألقي إليكم الرسالة لتفكّروا فيها ولتقتنعوا بها، ولتكون قناعتكم من خلال وعيكم الوجداني، لا من خلال مؤثّراتٍ أُخرى في شخصية الرسول خارجة عن الطبيعة.

ولقد رأيناه يحدِّث الناس في طبيعة مهمّته، بأنّ الرسالة لا تخضع للأشياء المادّية الخارجة عن بشريّته، (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (هود/ 12). من هنا، نرى أنّ الله كان يحدِّث الناس في أنّ الرسالة هي التي أعطت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ ما جاء به، ولم تكن هناك معرفة سابقة بها: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود/ 49)، وفي آيةٍ أُخرى: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) (الشورى/ 52)، فكلّ معرفتك التفصيلية كانت ناجمةً عن وحي الله إليك.

إنّ الأنبياء جميعاً لم يرسلوا إلّا بالعقل، أي بالوحي الذي يخاطب عقل الإنسان، وليست المعجزة أساس الدعوة، بل كان العقل أساسها، لأنّ المعجزات إنّما جاءت لردّ التحدّي، لا لإثبات الرسالة، والله أراد للناس أن يؤمنوا بالرسول وبالرسالة، من خلال ما يفكِّرون فيه بعقولهم في مضمون الرسالة وشخصية الرسول. لذلك نجد أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكِّد دائماً أنّ الله هو الشهيد، فعندما يسألونه مَن الذي يشهد لك يقول: (كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (الإسراء/ 96)، لأنّ معنى ذلك هو أنّ رسالتي هي التي يوحي بها الله إليكم في حركة عقولكم ومنطق فطرتكم، فلست بحاجةٍ إلى غير هذا. فقوله تعالى: (كَفَى بِاللهِ شَهِيداً)، يعني أنّ الله يشهد لرسوله بالرسالة، من خلال حقائقها التي تفرض نفسها على عقل الإنسان ووجدانه فيما لو كان عقله مفتوحاً ووجدانه مستقيماً.. فمنذ أن بعث الله الرُّسل، أراد للإيمان أن ينطلق من عقل الإنسان، لذلك قال سبحانه: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، وكان يتحدَّث عن الكافرين بأنّ لهم قلوباً لا يعقلون بها، وأنّ لهم آذاناً لا يسمعون بها، وأنّ لهم عيوناً لا يبصرون بها، كما كان يخاطب في المؤمنين عقولهم، لأنّها هي التي تقودهم إلى الإيمان، مثلما كان يخاطب في الكافرين انحرافهم عن خطِّ العقل والحسّ الذي يتحركون فيه.

ارسال التعليق

Top