بعد إتمام صلح الحديبية بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقريش في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، تململ بعض المسلمين واعترضوا، واعتبروه هزيمةً وتنازلاً، فنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآيات من سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا) (الفتح/ 1-3). وكانت هذه الآيات ردّاً على المشكّكين، وطمأنةً للمؤمنين الذين لم يكونوا يعلمون أنّهم وبعد أقلّ من سنتين من صلح الحديبية، سيعودون فاتحين إلى مكّة، منتصرين محطمين الأصنام. وبالعودة إلى ظروف الصلح وحيثياته، فإنّ المسار بدأ عندما قرّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التوجّه إلى مكّة لأداء العمرة، حيث نزلت عليه هذه الآية، وفيها: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) (الفتح/ 27). لم يتردّد المسلمون بالاستجابة لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخروج معه لأداء العمرة، فالشوق كبير إلى مكّة وبيت الله الحرام، بعدما ابتعدوا عنه طويلاً.
وفي الطريق، أُخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ قريشاً تهيّأت لمنعه ومَن معه من دخول مكّة، هناك أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه بالتوقّف ريثما يفاوض على الدخول إلى مكّة، وأرسل إلى قريش مبعوثاً هو عثمان بن عفّان، ليخبرهم بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن معه لم يأتوا للثأر أو القتال، وثياب الإحرام للعمرة تدلّ عليهم، وليس معهم إلّا السيف الذي يحمله كلّ مسافر في الصحراء، حتى إنّهم قد سيّروا معهم الأضاحي من الإبل. لكنّ قريشاً أمعنت في غيّها، فاستبقت المبعوث عندها، ولم تسمح له بالعودة. صعّدت قريش الموقف، فصعّد معها المسلمون. أعلنوا استعدادهم لدخول مكّة مهما كلّف الأمر من تضحيات. هنا طلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين مبايعته على قرار مواجهة قريش إن هي اختارت المواجهة. وهنا التفتوا إلى أنّ المسلمين عندما لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان من أجل العمرة، أمّا أن يتبدّل الهدف، فكان الأمر يحتاج ليسمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رأي المسلمين ويعطوه البيعة على هذا. وبالفعل، تمت المبايعة، وسُمّيت ببيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، وهي التي أشار إليها القرآن الكريم: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح/ 18).
والمبايعة عادةً لها دلالاتها الإجرائية والعملانية، فهي تعني عندما تحصل، أنّ الموقف تحوّل إلى قرار بالتنفيذ. لهذا، شكّل خبر البيعة صدمةً لقريش، فرأت أنّها تسرّعت، إذ منعت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن معه من أداء العمرة، ما سيؤدِّي إلى صِدام ومشاكل، وإلى إحراجها أمام العرب وتشويه صورتها وإظهارها بمظهر مَن يصدّ عن بيت الله الحرام، وأدركت أنّ عليها تدارك الصِّدام قبل فوات الأوان، فخطوة المنع ممكنة، ولكن هي لا تضمن كيف سينتهي الأمر وبأيّ كلفة. والنتيجة، من دون الدخول في التفاصيل، تراجعت قريش عن تهديدها، وسعت إلى لملمة الأمر، وصار الموضوع في مرحلة صياغة البنود.. أمّا المسلمون، فبعد كلّ الصبر والثبات، تمكّنوا من رسم معادلة جديدة مع قريش، وستكون هذه المعادلة فاتحةً لنصر المسلمين، فهيبة قريش اهتزّت، ولم تعد هي المبادرة التي تفرض شروطها وقراراتها، باستنادها إلى بطشها وجبروتها.
في صلح الحديبية دروس يجب أن نستلهمها ونتوقّف عندها.. فالمسلمون عند شروطهم، لا يغدرون أو يغيّرون. هذا ما يريد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين أن يكونوا عليه، لا أن يكون ديدنهم الخيانة والتملّص من الوعود والعهود والمواثيق والالتزامات. إنّ أيّ التزامات، هي تدخل ضمن العهود الشرعية.. الالتزامات ضمن العلاقات الفردية والعائلية، والالتزامات ضمن الوظيفة، والالتزامات بالمجتمع والقوانين والمواطنة، كلّ هذه لا يحقّ لنا تحت أيّ حجّة، ومهما كان الآخر سيِّئاً، أن ننقلب على ما التزمنا به أو تعاهدنا عليه. هذه هي الصورة الحقيقية التي يجب أن نتفقّدها فينا كمسلمين، إنّها معيار ومقياس جنباً إلى جنب مع الأمانة والصِّدق، لا بل إنّ الوفاء بالعهد يتضمّن أمانة ويتضمّن صدقاً.. جعلنا الله وإيّاكم ممّن هم لعهدهم وأماناتهم راعون.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق