• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ضياع ثروة

د. أحمد عبدالملك

ضياع ثروة

كانت إبرة المصل تغوص في يد العجوز الذي توقف عن الكلام، وعيناه تحدقان في سقف الغرفة، لايقوى على شيء. فقد طالت مدة إقامته في المستشفى على العام، وأخذ الملل يتسرب إلى نفوس بناته، بعد أن قمن بالتناوب على الحضور لرعايته ومواساته في المستشفى.

هذا الثري الذي تتحدث المجالس عن عصاميته واجتهاده وعمله الدؤوب، استطاع عبر التجارة أن يجمع ثروة طائلة تكفي لرعاية وبحبوحة أحفاد أحفاده. كان يخاف الله، ويوزع العطايا، ويدفع الزكاة، ويحترم الآخرين.

يرقد هذا الثري منتظراً دخول ابنه الأكبر حتى يحملق في وجه، ويكيل إليه اتهامات صادقة بأنه لا يستحق هذه الثروة الكبيرة. فقد دخل عليه الابن ذات صباح متعمداً ألا يكون عنده أحد من العائلة، وقام بأخذ بصمته، ووقعه على أوراق مهمة. لم يبدِ الأب أي حراك، ولم يقدر على الكلام أو استدعاء المرضة. وكانت الأوراق عبارة عن بيع كلّ أملاكه لابنه، كما أنه بصمه على شيك بمبلغ كبير لا يمكن تخليه.

ظل الرجل المسكين لا يتجاوب مع بناته أو مع أحفاده أو أصدقائه، ويبقى طوال الوقت صامتاً. وعندما يدخل عليه الابن الأكبر، تنشط حياته وذاكرته، ويبدأ في فتح عينيه في إشارة حانقة واتهام مباشر لولده الأكبر الذي وقّعه على الأوراق عنوة، ولربما حرم بقية إخوانه وأخواته من حقهم في الميراث. وكلّ مَنْ في الغرفة لا يدرك ماذا يعني الأب المقهور بتلك الحملقة واللسان المقطوع.

لا حظت الأخوات حالة والدهُنّ عندما يدخل أخوهن الأكبر إلى الغرفة. حاولنَ سؤال الوالد عما به بعد أن يخرج الأخ، لكن الوالد المسكين فقد النطق، ولم تعد لديه حاسة سوى البصر والتحديق في وجه ابنه الأكبر.

توفي الوالد مع غصته التي لم يعلم عنها أحد. وبعد شهرين من العزاء، طلب الأخ الأكبر من أخواته إخلاء المنزل الكبير، لأنه باع المنزل. بدأت المشاكل تَتوارى بين الأخوات الثلاث والأخ الأكبر. حاول إقناعهن بأن رصيد الوالد النقدي صفر، لأنه خسر في التجارة في آخر حياته، كما أن مصاريف علاجه في الخارج قد أخذت الكثير من الثروة.

لم تعرف الأخوات حجم العقارات التي استولى عليها الأخ الأكبر، ولم يكنّ على علم بالمشاريع والوكالات التي كان يتعامل معها والدهن في عز أيامه، لأن هذا الأخير جعلهن في حل من السؤال لإغداقه عليهن وعطفه وكرمه اللامحدود لهن. مسكين.. كان عطوف القلب، صافي النية، ولم يكن يعرف أنه خلّف ابناً لم يكن من الصالحين.

بدأ الأخ الأكبر يبدد الثروة. فمن شقة في لندن، إلى يخت في ماريبا، إلى سفرة إلى لاس فيغاس، حيث كانت الطاولات الخضراء والأجساد الشقراء له بالمرصاد.

وهكذا، تبددت ثروة رجل عصامي، حاول أن يجمعها في خمسين عاماً من أجل راحة عائلته، ومستقبل بناته، إلا أن الأخ الأكبر قلب لهنّ ظهر المجنّ، وجعلهنّ شقيّات بعد وفاة الوالد.

ارسال التعليق

Top