يقول سبحانه وتعالى في مفهوم العزّة: ﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون/ 8). فالعزّة، هي لله تعالى منبعُها ومصدرها وأساسها، وهي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفته مُتخلِّقاً بأخلاق الله في أبهى صُوَر التخلُّق وأكملها، وهي للمؤمنين المتأسِّين برسولهم، والمتخلِّقين أيضاً بأخلاق الله جلّ جلاله. التذلُّل للمؤمنين الصالحين، بالتواضع لهم، والمسامحة والمرحمة والعطف عليهم يعتبر عزّة: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ (الإسراء/ 24)، و﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحجر/ 88). والمؤمنون في تعاملاتهم اليوميّة يُراعون الإنصاف وحُسن السيرة، فإذا (تَذلَّل) المؤمن لأخيه مُسترضياً، أو مُسامحاً، فإنّه لا يشعر أنّ شيئاً من (عزّته) قد انتقص، وإنّما يرى أنّ (عزيزاً) يتعامل مع (عزيز).
ويقول تعالى في موقع آخر: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران/ 26). أيّ مثلما (العزّة) بيده، (الإذلال) أيضاً بيده، يهبُ الأُولى لمن يستحقّها من الناس، وينزعها عمّن لا يليق بها ولا تليق به، فيبقى أبدَ الدهر ذليلاً، وإن تَوسَّل بوسائل العزّة المادّية كلّها. قال تعالى في العصاة من بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ (الأعراف/ 167). وفي الدُّعاء: «فكم يا إلهيّ من أُناسٍ طلبوا العزَّة بغيرك فذلّوا». وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الله فوّض إلى المؤمن أُموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً». إنّ الذّلّ يُطفِئ الهمَّة، والإرادة، والعزَّة، والطموح، والإحساس بالكرامة والمسؤولية، تماماً كما يُطفئ الماءُ النارَ ويُخمده. الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه يقول قبل مقتله: «هيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». والسيِّدة زينب (علیها السلام) تقول بعد مقتله: «ما رأيتُ إلّا جميلاً». السيِّدة زينب (عليها السلام) هي التي علّمتنا كيف لا ينكسر الأعزّاء، حتى وإن كانوا يرسفون في القيود، علّمتنا كيف يكون العزّ بطاعة الله، والذّلّ بمعصيته: «من أراد عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى ذلّ طاعته». وقد سُئل الإمام عليّ (علیه السلام) يوماً: «أيّ ذلّ أذلّ؟ فقال: الحرص على الدّنيا». العزّة إذن كلّها في كربلاء، على الرغم من الانكسار العسكري، لأنّ إحقاق العزّة الإلهيّة التي أرادها الله للإنسان عموماً، ولعباده المخلصين خصوصاً، تجلّى في إباء العزّة لأعزّاء هُزموا ميدانياً؛ لكنّهم لم يُهزموا روحياً، ولا نفسياً، ولا معنوياً. فالحريصون على الدُّنيا أذلّاء بامتياز، فهم يقبلون عليها إقبال جائع جشع نهم طمّاع، وكلّ همّهم اكتناز ما أمكنهم من المال، وإشباع شهوتهم إلى لذّة أو منصب، من دون أيّ اعتبار للكرامة الشخصية.
إنّ المجتمع الإيماني هو المجتمع الذي يأخذ بأسباب العزّة والكرامة والإرادة والمعرفة والبصيرة، وهو المجتمع الساعي إلى بلوغ الكمال في شخصيته وحركته ووجوده، وهو الموحِّد لله في كلّ تفاصيل مسيرته سلوكاً وعملاً. فالدِّين هو شعور ينبثق عن وعي الإنسان ومعرفته بنفسه، ويدعوه إلى الكمال عن طريق تقديس القيم السامية من قبيل: الخير، البصيرة، اللُّطف، الحرّية، المعرفة، الكمال، الهداية، العزّة، العدالة، الحقّ، ومناهضة الضعف والذلّ. وتجتمع كلّ هذه القيم في إطار التوحيد الذي يعدّ أكثر الأُطر الدينية شمولاً في معبودٍ واحدٍ هو الله عزّوجلّ.
وأخيراً نقرأ في الدُّعاء: «إلهيّ كفى بي عزّاً أنْ أكونَ لك عبداً، وكفى بي فخراً أنْ تكونَ لي ربّاً، أنتَ كما أحبُّ، فاجعلْني كما تحبُّ، إنَّك أنت أرحم الراحمين، والحمد لله ربِّ العالمين».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق