• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في بحار الجمالية/ ج2

في بحار الجمالية/ ج2

◄إنّ الله تعالى هو الحقّ وله دعوة الحقّ وهو الجميل ودعوته جميلة ولبيان صورة الحقّ والعمل به ضرب تعالى مثلاً تتضح فيه أهمية اتباع الحقّ الموصل إليه بكسوة جمالية لا نظير لها أبداً بقوله عزّ وجلّ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17)، لا جدال البتة في أنّ الصورة التي تصوّرها لنا الآية الشريفة هو صورة للحقّ وأخرى للباطل بدقة متناهية وقد تناولها المفسرون بمصاديق عديدة ولكن هنا نحس ونرى أنفاسها الجمالية التي أضفتها على طبيعة الحقّ فهو الماء الصافي الطاهر الذي مصدره السماء يسيل في الجداول والأودية يملأ حباله فضاء العيون وتطبب به النفوس وتبل وتحيا وهذه الإحساسات والمشاعر الوجدانية المسرة لا تحقق إلّا إذا توفر الحس الجمالي عند الإنسان وكذلك الحلية الصافية في جوهرها ولونها تشع بالبهجة والانجذاب والحقّ جميل في جوهره يستقطب النفوس الجميلة فتتبعه... وأما الزبد الطافح فوق الماء فهو بمنظره جميل لأوّل وهلة ولكن سرعان ما يخبو ويندثر جماله وأيضاً المعادن الملوثة التي تمتزج مع غيرها سرعان ما تبعد وتهمل وهكذا الباطل يبدو في عيون أصحابه لا غبار عليه ولكنهم بعد قليل يكابرون محاولين إطالة وجوده كونهم أصحاب نفوس قذرة تتآلف مع القباحة فتصبح رداءاً لهم فيموت الحس الجمالي فيران على قلوبهم ويطبع عليها.

إنّ الجمال في الموجودات الخارجية هوايات أراد بها سبحانه أن ينبه النفوس لتسلك طريق الهدى وجعل في الإنسان حلقة اتصال ما بين أعماقه وبين طاهر الأشياء ليتم السير الصحيح فجاء المثل المذكور ليعطي بحيوية الكلمات وحركاتها وصورتها الفنية قوة للإنسان بتثبيت الحقّ الذي يمكث في الأرض بعدما شاهد صورته الظاهرية.

تستشف من جمالية القرآن المجيد المخلوقات من الناحيتين الظاهرية والباطنية، قال تعالى مخاطباً موسى (ع): (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (طه/ 39)، ففي الآية التفاتة إلى ما حبا لله به موسى (ع) والذي أرسل بالحقّ والمحبة هو الحب الذي يجلب النظر ويشرح النفس فتقبل عليه وتلك المحبة جعلت من فرعون الطاغي صاغياً إلى ما تتحسسه النفس ويميل إليه القلب وموسى يحمل شيئاً من الحب الإلهي يخلب القلوب بعد نفاذه إليها من العيون وبطبيعة الحال فإنّ ظاهر موسى (ع) يوافق باطنه فهو حب متكامل مثلما يعبر عنه أمير المؤمنين (ع): "واعلم أنّ لكلّ ظاهر باطن على مثاله فما طاب ظاهره طاب باطنه وما خبث ظاهره خبث باطنه" وهو التوافق الحقيقي المؤثر في النفوس بهذا استطاع الكليم أن يعلن الحقّ بثبات ويحارب الباطن وينطبق هذا التوفيق ليشكل براءة أخرى ليوسف (ع) عقبى حبه الأخاذ آية واضحة على براءته فإنّ تلائم ظاهره مع باطنه ينفي أي شك في محاولة تورطه في الدنس فلا يمكن أن يدنس نعمة الجمال الحقيقية بترعة الرجس والقذارة المتمثلة بجمال امرأة العزيز التي لم يتوافق جمالها المشاهد مع قباحتها المخبئة وراء صورتها اللطيفة...

شاء الله تعالى أن يتوّج دعوة الحقّ بمن يحملها وهو سيد الكائنات النبيّ الأعظم (ص) حيث بقيت دعوة الإسلام حية متحركة جميلة وهيأ لها صورة نقية هي القرآن الخالد مع الزمن واتباعه هو اتباع للجمال الحقيقي ولأنّ كلّ المخلوقات خلقت من نور نبينا الكريم (ص) فيكون الجمال مودع فيها ولا يوجد القبح إلّا ما قبحته المخلوقات بنفسها وتلك قباحة عرضية...

من المؤكد أنّ الجمالية متناثرة في ثنايا الوجود ولا يقوم شيء من دونها والعلاقات الاجتماعية تخضع لها فمن جماليات المشيئة الإلهية وكلّها جميلة أن جعل الإنسان مختاراً بعد ما هداه النجدين وهداه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ومن ثمار اختيار الإنسان الصالح من الأعمال أو أخلاقها التعامل الاجتماعي.. لكلّ اختيار صورة فالحسن مَن يرقى به إلى التسامي والآخر يجره إلى التسافل إلى خيانة الربّ بترك الأمانة ونشر العبث والخراب والفساد والأنانية وكلّها صورة للقباحة... بطبيعة الحال نطمع في العلاقات الاجتماعية إلى إبراز الجمالية في أجوائها مثل نبذ الخلافات الشخصية والجماعية صفاء الأجواء من خلال عدم التدخل في شؤون الغير وعدم الإكثار من متابعة كلّ صغيرة وكبيرة لخصوصيات الأفراد الذين تربطنا بهم صلة اجتماعية سواء أقارب وغرباء وهنا يمكن الصدق في التعامل والكلام وعدم محاولة خلق الأكاذيب لمداراة بعض الأمور التي يريد المرء إخفائها عن غيره كونها تخصه أو تخص من له علاقة به وهذا يقود إلى إفاء السلام والتعاون في حلّ المشاكل المعنوية والمادية وذلك كلّه يتم طبعاً على ضوء الأخلاق الإسلامية المتميزة بجمالها وهكذا بالتدريج نرتقي بعلاقاتنا إلى مستوى التفاهم والمودة والمحبة... إنّ المدينة التي يحتاجها المجتمع ولا تقوم حياته إلّا بها تأتي بواسطة مشاركة الفرد مع أبناء مجتمعه حيث يسودها الوئام والاحترام والإحساس بالمسؤولية النابعة من معرفة الإنسان لنفسه وموقفها غداً أمام ربها... يجدر بنا أن نذكر حالة مهمة لها مساس في حياتنا اليومية الحالية وهي التعاون المادي فالفقر يعتبر من الآفات ذات التأثيرات المتعددة ولها امتداد في الحياة البشرية ومجتمعاتها حتى وصل الحال بتقسيمها إلى مجتمعات غنية متطورة أو شمالية ومجتمعات فقيرة نامية أو جنوبية وهذا تقسيم أمبريالي أمريكي الجوهر الغاية وضع وصاية اختيارية في ظاهرها البلدان الفقيرة حسب تحليلاتهم ولم نجد أساساً لهذا التقسيم فيتبعونها بالقروض تارة وبالقوة تارة أخرى ولكن البلد الأصيل الذي يمتلك الدين والإيمان يبقى عنوانه شامخاً ولا يخضع لتلك الخطة الأمبريالية.

على أيّة حال الإنسان إما غنياً وإما فقيراً هذه مشكلة تواجه الإصلاح الاقتصادي ولكن من الناحية النفسية فالغنى الحقيقي هو غنى العقل والفقر هو فقر الجهل وهذا يفيدنا في البحث عن الزاوية الجمالية عندهما فلابدّ للفرد الغني مادياً أن يغيّرو يؤمن بأنّ الملك لله تعالى ويعلن نفسه أنّه مخول بما يملك وأنّ ملكه صورياً فقط ومثل هذا الإنسان المقر بذلك يتلقى من أخوانه خيراً وأما الظان بنفسه غناها فلا ينتظر منه خيراً...

الإنسان الفقير صنفان منه مَن أعلن حاجته وآخر (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة/273) وهؤلاء صنف رائع وهو الذي قال عنهم أمير المؤمنين (ع) بأنّهم يتبخترون على الأغنياء وسبب ذلك عفافهم الجميل بقوله (ع): "العفاف زينة الفقر" عجبا! أنّ للفقر زينة جمالية هي العفة عن طلب الحاجة إلى الناس بل يطلبونها من الله الغني الذي لا يخفى عليه حال مخلوق في مملكته اللامحدودة فجعلوا من العفاف تاجاً مرصعاً بشتى المعادن والأحجار يشبهون الطاووس على كثير من أغنياء اليوم الذين تغطيهم قباحة الاستغناء وعدم التعاون...►

 

المصدر: مجلة الكوثر/ العدد 99 لسنة 2005م

ارسال التعليق

Top