أسرة
القصة الخامسة
"أخافُ أن أخون عهدي!!"
يقول (الشيخ عبدالقادر الكيلانيّ): بنيتُ أمري على الصِّدق (أي اتّخذتُ عهداً أن لا أكذِب أبداً). فلمّا خرجتُ من مكّةَ إلى بغداد لطلبِ العلم، أعطتني أمِّي أربعينَ ديناراً، وعاهدتني على الصِّدق (أي طلبت منِّي أن أعاهدها على أن أكون صادقاً على كلِّ حال).
فلمّا وصلنا (همدان) خرجَ علينا لصوص. فقال أحدهم: ما معك؟ فقلت: أربعون ديناراً!! فظنّ اللّصُّ أنّني أهزأ فتركني (لأنّ اللّصوص اعتادوا أن سؤالاً كهذا لا يصدق فيه المسؤول عنه).
ثمّ سألني آخر فأخبرته، فأخبرَ أميره بخبري، فجاءني الأمير وسألني: ما الذي حملكَ على الصِّدق؟
قلت: عاهدتُ أمِّي عليه، وأخافُ أن أخونَ عهدَها!!
فصاحَ أميرُ اللّصوص في صحوةِ ضمير: تخافُ أن تخونَ عهدَ أمّكَ ولا أخافُ أن أخونَ عهدَ الله، فردّ كل ما أخذه من القافلة، وقال: تِبْتُ على يديكَ!!
- الدروس المُستخلَصة:
1- من طرق التربية العميقة التأثير (المعاهدة) وهي إمّا أن تُعاهد الله على أن (تفعل) أو (لا تفعل) شيئاً، أو تُعاهد شخصاً عزيزاً على عملٍ صالحٍ تعمله، أو عملٍ قبيحٍ تتركه.. والأهمّ من (المعاهدة)، (الوفاء) بها.
2- (أخاف أن) أو (أخشى أن) عبارة تكرّرت في أكثر من قصّة، وقد قلنا إنّها تُعبِّر وتُعرب عن نفسٍ تقيّةٍ ورياضة قلبيّة جرِّب أن تتذوّق حلاوتها.
3- صيانة عهد الأُم بالصِّدق، دفعَ أمير اللّصوص إلى صيانة عهد الله بالصِّدق، فالخوف من خيانة الله أشدُّ من الخوف من خيانة عبدالله، وهذا أيضاً من (دورة الحبّ)، حيث يجتذب الصِّدقُ الصِّدقَ، والمُعاهدةُ المُعاهدةَ، والصلاحُ الصلاحَ.
القصة السادسة
"اصدِّق حماراً يطير.. ولا أُصدِّقُ مؤمناً يكذب!!"
بينما كان الراهبُ (توما اللاهوتي) في حجرته منشغلاً بمباحث مهمّة، إذ دخلَ عليه أحد الرهبان بغتةً، وقال له:
- يا أبانا.. يا أبانا.. قُم سريعاً وانظر حماراً يطير!!
فقامَ اللاهوتي في الحال وخرجَ معه إلى باحة الدّير، وأخذ يتفرّسُ هنا وهناك فلم يرَ الحمار المُدّعى أو المزعوم، فالتفتَ إلى الراهب قائلاً: أينَ هو؟
قال الراهب: عجباً يا أبانا، وهل تُصدِّقُ ما قلتُ لك؟
قال: نعم، أُصدِّقُ أنّ الحمار يطيرُ، ولا أُصدِّقُ أنّ الراهب يكذب!! فخجل الراهب، وانصرفَ يوبِّخُ نفسه.
- الدروس المُستخلَصة:
1- أُصدِّقُ ما لا يُصدّق، كما بالنسبة للحمار الطائر، ولكنني لا أستطيع تصديق أنّ أهل الإيمان يكذبون.. مقولة رائعة، تؤكِّد على أنّ صفةَ (التديُّن) ملازمة لصفة (الصِّدق) ملازمة الإنسان لظلِّه.
2- الصِّدقُ من كلِّ أحدٍ حسن، ومن المُتديِّنين أحسَن، والكذب من كلِّ أحدٍ قبيح، ومن المؤمنين أقبح. قال الشاعر (إلياس فرحات):
أنا لا أُصدِّقُ أنّ لصّاً مؤمناً **** أدنى لربِّكَ من شريفٍ مُلحِدِ!!
ارسال التعليق