• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لا تحكم على الناس بالعاطفة

خليل حنا تادرس

لا تحكم على الناس بالعاطفة

◄يجب ألا نغفل تلك الحقيقة وهي أنّ كلّ واحد منا ينظر إلى العالم بمنظاره الخاص، وأنّه ينظر إلى نفسه نظرة تخالف نظرة الآخرين إليه، وأنّ كلّ واحد منا كذلك قد زود بجهاز عقلي يعينه على الاحتفاظ بذاتيته، وهذا الاحتفاظ يكون في الغالب على حساب الحقيقة.

فإذا حكمنا على أنفسنا لجأنا إلى تزييف الحقائق ونسيان عيوبنا، غير ناسين عيوب غيرنا، متجاهلين نصائحهم وإن كنا نذكرها في أنفسنا؛ وكثيراً ما نخطئ في الحكم على الناس لعدم فهم شخصياتهم فهماً صحيحاً، وهذا راجع إلى صدى عاطفي عميق غير أنّ بعض التأمل الباطني كفيل بأن ينبهنا إلى هذا الخطأ.

فإنّ نغمة معينة في الصوت، أو لوناً خاصاً في الثوب أو المظهر أو في السلوك قد يجذبنا وقد ينفرنا منه؛ وهذا أمر لا يمكن إنكاره.

ولا شكّ أنّ طبيعة هذا الحكم تقوم على العاطفة المتأصلة في اللاشعور حيث الذكريات العميقة والارتباطات القوية المصحوبة بالانفعالات الحادة تثار من جديد؛ ولنضرب لهذا بعض الأمثلة:

فلنفرض أنّ رجلاً كان يحب امرأة معينة، ولنفرض أنّه حدث في أحد أدوار العاطفة العنيفة؛ ربما كان هذا في أوّل يوم عرف فيه أنّه يحبها إن كانت هذه المرأة ترتدي ثوباً أزرق، ولما كان الحب تجربة سارة من غير شكّ، فكلّ شيء شديد الارتباط في عقل الرجل بتلك التجربة يميل إلى إيقاظ الأصداء القديمة لتلك العاطفة السارة الأصلية؛ ولذلك قد يصبح اللون الأزرق هو اللون المفضّل عند ذلك الشخص بقيمة عمره؛ وقد يستمر ذلك الأثر طويلاً حتى بعد أن تنسى التجربة الأولى تماماً.

وقد يكون أحب الألوان عند شخص آخر هو لون ورق الحائط الذي رآه في الغرفة التي قضى فيها ساعات سعيدة من ساعات طفولته، وقد يرجع تفضيل ذلك اللون في أحوال أخرى إلى أنّه كان لون الثوب الذي اعتادت أمّ الطفل أن تلبسه وقت أن كان دون الثانية من عمره.

والواقع أنّه لا يمكن حصر التجارب السارة أو المؤلمة التي تغرس في الإنسان ما يحب وما يكره من هذا القبيل.

وكثيراً ما يستطيع الذين يحبون أناشيد معينة أن يعللوا تفضيلهم لها عادة بما كانت ترتبط به من الظروف في أثناء طفولتهم أو ما بعدها، لا بما تتصف به النغمة في ذاتها.

وكثيراً ما يكون تعليل الناس لحبهم للأزهار التي يعجبون بها راجعاً لسبب عينه.

وقد نتحامل بسبب حادث قديم – ربما يكون قد نُسي تماماً – على جميع الأشخاص الذين يتصفون بملامح معينة، فإذا كنا كلفين بوالدينا فقد نقضي كلّ حياتنا مقيدين عقلياً بالميل من غير سبب معقول إلى الآراء التي اعتادوا أن يعلنوها، أو الحزب السياسي أو المذهب الديني الذي كانوا ينتسبون إليه.

أما إذا كنا أشقياء أو تعساء في طفولتنا؛ فإنّنا قد نمضي متحاملين على والدينا، أو على من يشبهونهما أو يقترنون بهما أو على المبادئ والمثل التي يدينان بها.

فإنّ لو فستان مثل الذي كانت ترتديه والدتنا، أو صوت شخص كصوت والدنا، أو سلوكاً كسلوك أوّل أستاذ لنا قد يتحكم فيما نصدره من أحكام على أصدقائنا الجدد.

فقد ينشأ الطفل متحاملاً على جميع النساء ذوات الأنوف القصيرة، لا لشيء إلّا أنّ مربيته التي كانت تسئ معاملته كان لها أنف قصير.

وقد يكلف بحب الفتيات ذوات العيون الزرق أكثر من ذوات العيون الداكنة لأنّ أُمّه ذات عينين دكناوين.

ويطلق علماء النفس على هذا لفظ التقمص؛ وعنه تصددر هذه الأحكام اللاشعورية التي تتغلغل في صميم حياتنا، وتصبغ شعورنا، وتغزو حياتنا الفردية والاجتماعية؛ كما أنّ وجودها في الجماعات له أثر فعّال في الاضطرابات السياسية التي يعاني منها العالم الشيء الكثير.

ولكن يجب ألا نغالي في الأمر ونقول: إنّ كلّ ما نحب وما نكره يمكن أن يفسر هذا التفسير؛ إنّنا إذا قلنا هذا نكون مخطئين.. ولكنّ جانباً كبيراً مما نفضله أو نتحامل عليه يمكن أن يفسر على هذا النحو.►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة

ارسال التعليق

Top