• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معوقات التفكير السليم في المجتمع

أ. د. محمّدحسن غانم

معوقات التفكير السليم في المجتمع

◄يمكن رصد العديد من صور معوقات التفكير السليم في الآتي:

 

1-    التحيز:

لعل آفة العلوم الإنسانيّة بصفة عامّة هي التحيّز ويأتي التحيّز من خلال انحياز الفرد إلى ما يراه هو وليس كما هو موجود – أو يجب أن يكون موجوداً – في الواقع.

فأنت مثلاً كباحث حين تدرس ظاهرة إنسانيّة مثلاً (مثل دراسة الشذوذ الجنسي لدى الشاذين) وأنت موقفك من البداية كراهية هذا الشذوذ وأصحابه، فماذا نتوقع منك؟ مزيد من الشجب والاستنكار لهذه الفئة.. وكذلك الحال حين تقوم بدراسة (الذكاء) لدى أفراد مجتمعك وتقارن هذه النتائج بنتائج أخرى قد أجريت عن الذكاء في مجتمع آخر. هنا انحيازك إلى المجتمع الذي تنتمي إليه سوف يجعلك تتوصل إلى نتائج تمدح من خلالها بني جلدتك وتتحيز لهم، وتوصم المجتمع الآخر (الأوربي) مثلاً بأن أفراده لا يتمتعون بنفس درجة ذكاء أفراد مجتمعك.. ولعل دراسات الطابع القومي خير نموذج على ذلك.

ولذا فقد ذكر أحد الباحثين أنّ الباحث حين يفكر في موضوع دراسته ويشرع في التفكير فيه فأنّه يجب أن يتخلص من ذاتيته ويعقم نفسه – تماماً مثل الطبيب قبل دخوله إلى غرفة العمليات – من أشياء كثيرة قد تفسد موضوعيته مثل:

أ‌)       الانحياز لجنسه (ذكر أم أنثى).

ب‌) الانحياز لوطنه وقوميته.

ت‌) الانحياز للطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.

ث‌) الانحياز الديني... إلخ.

والمشكلة أن غالبية (صور التحيز) تحدث في العلوم الإنسانية. حيث أنّه قد يحدث تحيز – أيضاً – في بعض نتائج العلوم الطبيعية (بهدف أن يكون إنجاز الاكتشاف العلمي مرتبط بالمجتمع والقومية التي ينتمي إليها العالم، ألا أن (عالمية) قوانين العلوم الطبيعية وإعادة النظر في هذه النتائج من قبل علماء آخرين (سواء من نفس الدولة أو من دولة أخرى) إلا أننا يجب أن ننتبه إلى آفة التحيز.

ولعلنا في أمثلتنا الشعبية نؤكد هذا التحيز من خلال قولنا (إن حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط) وكذا قول الشاعر: (أن عين المحب عن المحب كليلة) أي لا تبصر أخطاء من يحبه، عكس الموقف من شخص آخر قد لا يحبه، وهي واقع تشير بصورة أو بأخرى إلى ما يمكن أن يلعبه التحيّز في التوصل إلى نتائج قد لا تكون حقيقية من الأساس.

 

2-    الخلط بين التقدير والتقديس:

نلاحظ بعض الأفراد في حياتهم العامّة – أو حتى الخاصّة – وقد وصل احترامهم لبعض الأفراد إلى درجة التقديس، وما دمت (تقدس هذا الفرد) فإنّ النتيجة المترتبة على ذلك أنك تنظر إليه على أساس أنّه (معصوم) من الخطأ، وأن كلّ ما يصدر عنه صحيح وصواب. وهناك فرق بين الشخص وأداءه، فأنت كشخص أحترمك (هذا لا شك فيه) لكن ما يصدر عنك من أداء وسلوكيات وآراء واتجاهات قد يحتمل الصواب والخطأ لأنك في نهاية الأمر وأوله بشر، والبشر – أي بشر – ليس معصوماً من الخطأ، وما دمت (تقدس) الفرد فأنت لا تستطيع أن تناقش أفكاره.. وهذا بلا شك يبعدك عن التفكير العلمي السليم القائم على استراتيجيات ومهارات وطرق محددة.

ولعل رفض الإسلام في بداياته من قبل بعض الأفراد جاء على إثر ما كانوا يعتقدون فيه هو الصواب وأن غير ذلك هو الخطأ.

 

3-    الاعتماد على مصادر غير صحيحة في جمع المعلومات:

إنّ أوّل طريق التفكير العلمي السليم هو أن تكون مصادرك للمعلومات سليم وكلما كانت معلومات (ومصادرك سليمة) كان قرارك أو ما يتلو ذلك سليم والعكس بالعكس.

وفي هذا السياق أيضاً نؤكد على حقيقة خلاصتها يجب أن يكون جمع للمعلومات ليس فقط من مصدر (واحد) سليم بل من مصادر متعددة، وما دامت هذه المصادر سليمة فأنّها سوف تتفق في نهاية المطاف على (النتيجة أو النتائج) التي توصلت إليها – لأنّه لا تعارض في مصادر العلم – بيد أن من الأخطاء الشائعة أن بعض الأفراد يسارعون إلى اتخاذ القرار من خلال مصدر واحد وغير موثوق به، وبالتالي يتم التوصل إلى عديد من النتائج جد السيئة لأنّ البداية كانت من البداية خاطئة.

 

4-    التكبُّر والغرور:

آفة الباحث أو المفكِّر هي الغرور، لأنّ الغرور معناه اعتقاد الفرد أنّه قد وصل إلى ما لم يصل إليه السابقون عليه ولا حتى اللاحقون، والنتيجة الجمود وعدم مواكبة التطور ويقال أن سبب اندثار (الديناصور) هو أنّه قد وصل إلى درجة من الغرور والتكبُّر دفعته إلى الجمود (الحركي) وبالتالي عجز عن الحركة والنجاة بنفسه حين أقتحمه الخطر، ولذا يعجبني جدّاً قول الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك (أي الآخر) خطأ يحتمل الصواب.. ومن هنا فأنّه يضع قاعدة أساسية (للتحاور) مع الآخر من منطلق أنّ الآراء بعد فحصها وتمحيصها قد تكون خاطئة أو صواب وليست أفكارك على طول الخط صواب، ورأي الآخر – على طول الخط – خطأ، لأنّنا بهذا الاعتقاد لن ندخل في حوار جدلي ديالكتيكي مع الآخر، وكيف لي أن أفعل ذلك، وأنا قد حددت مصير الأمور (بل والحوار مع الآخر) منذ البداية.

 

5-    التفكير المضاد:

ونلاحظ بعض الأشخاص وقد انتابته حالة انفعالية وعجز عن إقناع الآخر بآرائه ونجده يتبنى مجموعة من الأفكار والاتجاهات (عكس أفكار واتجاهات) الشخص الآخر، أنّه شخص (معارض من أجل المعارضة) وليس معارضاً (من أجل إظهار الحقيقة) ويظل متمسكاً بآرائه المضادة ليس لهدف واحد إلا وهو (معارضة الشخص الآخر) وتبني مواقف وأفكار (عكسه) تماماً لا لشيء سوى (كراهية) لهذا الشخص حتى وإن كانت هذه الكراهية قد (أعمته) عن رؤية الحقيقة أنّه العناد من أجل الفساد وكفى بذلك دليلاً لذا يجب أن ينتبه به الفرد إلى حقيقة مشاعره.

 

6-    الجمود الفكري:

حيث نجد بعض الأفراد وقد توقفوا بآرائهم عند مرحلة زمنية معينة، لدرجة أنّهم يرفضون الاعتراف بمتغيرات البيئة، والعمر، والتي تقتضي بدورها رؤية أكثر معاصرة وانفتاحاً حسب مقتضيات الواقع وقوانين الحياة والمتغيرات الجديدة فالرجل مثلاً قد لا يؤمن بتعليم الفتاة، وقد يكون هذا مقبولاً في فترة زمنية معينة، وحدثت مجموعة من التطورات حتمت خروج الفتاة إلى الدراسة، لكن صاحبنا هذا يظل رابضاً ومدافعاً عن رأيه ويقول لك (يا عم أنا دقة قديمة) ومهما حدث فلن أغير رأيي.. ولا شك أن هذا خطأ يقود بدوره إلى العديد من النتائج جد الخاطئة.►

 

المصدر: كتاب مقدمة في سيكولوجية التفكير

ارسال التعليق

Top