• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لمـــاذا لا نعتذر؟

محمد العليوات

لمـــاذا لا نعتذر؟

◄لسنا ملائكة لا نخطأ، ولسنا أنبياء لا نتجاوز على الآخرين ولا نظلمهم، الخطأ منّا متوقع، والتجاوز من قِبلَنا على الآخرين ليس مستغرباً، فنحن بشر، والبشر خطَّاؤون، وعلينا أن لا نكابر عند صدور الخطأ منّا، وكأننا نريد أن ننزه أنفسنا منه، فنجانب الحقيقة، ونرجو المستحيل، ونزكِّي أنفسنا كذباً وبهتاناً، والله عزّ وجلّ يأمرنا باتهام الذات، وعدم تبرئتها.. لنتمكّن من عمل مراجعة موضوعية تبدأ من الذات أوّلاً وقبل كلّ شيء.. يقول عزّ من قائل: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف/ 53).

ويقول أيضاً: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (النجم/ 32).

إنّ البعض منّا يحاول أن يلقي بأخطائه على الآخرين، بل ويبحث عن كلّ الوسائل والذرائع لتحميل الآخرين أخطائه، وإلصاقها بهم، وتبرئة ذاته من كلّ شيء، وإنكار حقائق أفعاله وتجاوزاته، والجدال في ذلك أحقابا... (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54).

ولأنّ الإعتراف بالخطأ يحتاج إلى شجاعة أدبية، وتحمل ما يترتب على ذلك من مسؤوليات والتزامات، فإنّ البعض يهرب عادة من كل ذلك محاولاً دس رأسه في التراب كما يقال.. وذلك هروباً من مواجهة استحقاقات الخطأ!

والحقيقة التي لا مفر منها هي أن ارتكاب الخطأ يرتب على المخطئ إلتزامات أخلاقية بحجم الخطأ، وأنّ الإعتراف والإقرار بالخطأ والاعتذار منه فضيلة أخلاقية، وقيمة دينية، وفعل حضاري ينبغي أن يتحلى به بكلّ شجاعة واقتدار، فالرجولة والشهامة والمروة بل والإنسانية كلها في إنصاف النفس والآخرين، وتحمل المسؤولية بعد ذلك! ومنها تقديم الإعتذار للآخرين وطلب السماح منهم..

بيد أنّ البعض ينتصر ظلماً لنفسه ويرفض الإعتذار للآخرين غير آبه بمشاعرهم وأحاسيسهم، وكرامتهم.. فلماذا يفعل البعض ذلك، ولماذا يرفض بعض الأزواج الإعتذار للآخر، والاعتراف بالخطأ، ويصعب عليهم التفوه بكلمة (آسف)، (أرجو المعذرة) وما أشبه لنزع فتيل التأزم في العلاقة بين الطرفين.

يمكن القول إن هناك مبررات عديدة تقف خلف الامتناع عن الإعتراف بالخطأ والإعتذار منه.. ومنها:

 

الإعتذار ذل وهزيمة:

يفكر البعض بطريقة خاطئة حيث يعتقد أنّ الإعتذار من الآخر بعد التجاوز عليه ذل وهوان، وينم عن ضعف وهزيمة. ومما يؤسف له فإنّ هذا التفكير يكشف عن جهل بالقيم الدينية، التي تدعو إلى الاعتراف بالخطأ، ورد الحقوق لأصحابها، وطلب العفو وبراءة الذمة.

وليس بصحيح أنّ الإعتذار ذل وهزيمة، بل هو شجاعة وحكمة، ويتطابق تماماً مع الموقف الشرعي المطلوب من المؤمن، والذي يدعوه لطلب الإعتذار عند التجاوز على الآخرين..

والصحيح أنّ الإصرار على الخطأ والهروب من استحقاقاته خسَّة في النفس وهبوط في القيم.. وإذا كان البعض يشعر فعلاً بالذل والمهانة عند طلب المعذرة من الآخر فإن ساعة ذل وهوان في الدنيا أفضل من لحظة اقتصاص في الآخرة، والعاقل يختار الاعتذار وإن كان فيه شيئاً من مرارة الذل والمهانة.

 

العناد والمكابرة:

بالرغم من صدور الخطأ منه تجاه الآخر إلا أنّ البعض يكابر ويصر على عناده ويتعصب لذاته ويبرىء نفسه من ارتكاب الخطأ، وربما نسب الخطأ إلى الغير، وفي النهاية لا يعترف بالخطأ ويصر على موقفه، ولا يبدي ليناً أو مرونة، ولا يتقدم نحو الآخر الزوجي (مثلاً) طالباً العفو منه، بل ويصر على تبرئة ذاته. إنّه مثال لقول الله عزّ وجلّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة/ 206).

فالبعض يعميه التعصب والعناد عن رؤية الحقيقة الواضحة كوضوح الشمس، ومما يؤسف له فإنّ الكثير من الأزواج تأخذهم العزة بالإثم، ومع معرفتهم بأنهم مخطئون إلا أنّهم لا يقرِّرون للآخر بأخطائهم، ولا يعترفون له بذلك، بل يمارسون الجحود تعصباً وعناداً.. وهؤلاء ينطبق عليهم قوله عزّ وجلّ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) (النمل/ 14).

إنّ العناد والتعصب للذات سلوك خاطئ وبائس يعمي المرء عن رؤية الواقع والاعتراف به.

 

الخشية من رفض الاعتذار:

يرغب الكثير منا في تقديم الاعتذار للآخر الزوجي، وطلب العفو منه.. بيد أن مشاعر الخوف من رفض اعتذاره تسيطر عليه، وتثنيه عن رغبته تلك، فيحجم عن الاعتذار لأجل ذلك..

بيد أنّ هذا التبرير ليس كافياً في الإحجام والامتناع عن الاعتذار، ففي كثير من الأحيان تتحول الوساوس الشيطانية إلى مشاعر خوف من رفض الاعتذار، وفي العادة يعزف الشيطان على ما يطرب الإنسان ويلاقي قبولاً عنده، فالخفاء والتدليس من طبيعة الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، فيخرج العمل الشيطاني المكروه بمخرج جميل مقبول، ويغلِّفه بغلاف حسن فيما داخله كل المكر والخبث، فمشاعر الخوف تلك ما هي إلا أحابيل وألاعيب شيطانية لتستمر العداوة والبغضاء بين المؤمنين، إنّه نزغ الشيطان وفتنته، وعلينا أن نستعين بالله العظيم على ضعفنا في مواجهة الشيطان الرجيم.. (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت/ 36).

ومن ناحية أخرى، وعلى افتراض أن تكون المخاوف حقيقية، وأنّ الآخر لا يرجى منه قبول الاعتذار، والتعاطي بإيجابية مع هذه الخطوة، إلا إنّه على من تجاوز على الآخرين أن يقوم بواجبه الشرعي والأخلاقي، وأن يبادر للإعتذار بغض النظر عن موقف الطرف الآخر، ما إذا كان إيجابياً أو سلبياً، وعليه أن لا يعلِّق ذلك على ردة فعل الطرف الآخر، فالمسؤول أوّلاً وأخيراً من تجاوز وأخطأ، وعليه أن يرد الاعتبار لمن أخطأ بحقه، ولا يتهرب من مسؤوليته مبرراً ذلك بإمكانية رفض الطرف الآخر لإعتذاره!

 

لا اعتذار بين الأحباب:

يراوغ بعض الأزواج ويتهرب من تقديم إعذاره للآخر معللاً ذلك بكلمات متداولة تقول أن لا اعتذار بين الأحباب، وأنّ الاعتذار يسقط بين الزوجين، وبين كلّ محب وحبيبه، وأنّ العلاقة الزوجية تتسامى فوق كلّ اعتذار، بل إن ذلك يسيء للعلاقة بين الطرفين!

بيد أن تلك الأفكار تبريرات مفضوحة، تهدف إلى القفز فوق الخطأ، وتتجاهل الإساءة للطرف الآخر، والإعتداء على حقوقه، والتهرب من الاعتذار بذرائع غير منطقية، وكأنّما يقال للطرف الآخر ستتكرر الإساءة مرة تلو أخرى، وعليك أن لا تنتظر الاعتذار وتحمَّل الحماقات، ولا تطلب الاعتذار.

وعلينا أن نشير هنا إلى تلك التبريرات – أنّ لا اعتذار بين الأحباب – معكوسة تماماً، إذ أنّ التعاليم الدينية تشير إلى تأكيد الحقوق والواجبات بين الأرحام والأزواج مقارنة بالأباعد، فإذا كان الإعتداء على الآخرين من الأباعد وتجاوز حقوقهم غير جائز شرعاً، فيتأكد ذلك الحكم في علاقات القرابة، وإذا كان الاعتذار سائغاً بل ومطلوب من الأباعد عن الخطأ، فمن باب أولى يكون مطلوباً بين الأقارب والأزواج، ولا يسقط الاعتذار بين الأقارب إلا إذا أسقط الأشخاص حقوقهم عن الغير، وذلك كلام آخر.

 

عدم الاكتراث بالنتائج:

لا يقيم البعض وزناً لمشاعر الآخرين وآلامهم النفسية وإحساسهم بالإهانة، ولا يكترث بردود أفعالهم، وشحنات الغضب المتفجرة داخل نفوسهم، بل ويتصرف البعض وكأن شيئاً لم يقع منهم، إنّهم عديمي الإحساس لا يشعرون بأذى الآخرين ولو كانوا الأقرب إليهم، ولا تهمُّهم النتائج المترتبة على أخطائهم وممارساتهم السيئة تجاه الغير..

لا يحمِّلون أنفسهم أيّة مسؤولية أخلاقية ولو كانت على مستوى الاعتذار من الآخرين، وطلب العفو منهم والتجاوز عنهم!

 

التعالي والترفع عن الآخرين:

يدفع الشعور بالتعالي والترفع على الآخرين إلى الامتناع عن الاعتذار، إذ يحسب البعض أنفسهم أنّهم فوق الاعتذار، بل وفوق الناس أجمعين! وينظرون إلى غيرهم بأنّهم أقل شأناً ومستوى منهم، خصوصاً عندما يتوؤون موقعاً ومكانة اجتماعية متميزة.

وينسحب الشعور بالتالي عند بعض الأزواج، إذ يتصور أنّه أعلى شأناً وقدراً من زوجته، بل ويعتقد أن على زوجته أن تعتذر بشكل دائم له حتى لو كان هو من أخطأ بحقها!►

 

المصدر: كتاب آسف.. قلها وكفى

ارسال التعليق

Top