مكالمة هاتفية من الإسكندرية.. زوجي أصيب في حادثة ونقل إلى المستشفى.. انتشر الخبر في المستشفى الذي أعمل به وبدا واضحاً اهتمام زملائي بالأمر، فقد كان زوجي شخصية محبوبة وكانت الاستشارات القانونية تنهال عليه بوصفه محامياً..
اخترت السفر في أوّل قطار يغادر العاصمة قفزت الذكريات وتلاحقت.. النهاية قبل البداية.. صورة بعينها جبّت كل الصور.. آخر موقف بيني وبينه.. نظراته تنطق بالمرارة وهو يقول: منذ شهرين وكلانا يهرب من الحقيقة وقد آن لنا مواجهتها.. هذا الزواج محكوم عليه بالفشل.. أنا وحدي السبب وأنت الطرف المجني عليه وتستحقين فرصة أفضل.. يجب أن أنسحب من حياتك.. أغمضت عيني في محاولة للهروب من أفكاري، من أصوات أخذ يتردد صداها في أعماقي "كاذبة".. ليس هو السبب الحقيقي.. تركته يرحل لأنني وجدت في ذلك الحل الوحيد للمشكلة التي طحنت أعصابه وأعصابي على مدى شهرين.. منذ ليلة الزفاف.. تركته وحده وسط مشكلته مهزوماً مهموماً.. وها هو في المستشفى يعاني وحده المأساة.. ما الذي كان يمكن أن أفعله؟ صبرت وتحملت وكل ليلة أخدر نفسي بالأمل.. تركته في محاولاته اليائسة يومياً بعد يوم حتى ملّ هو المحاولة.. كف عنها نهائياً.. استسلم.. أدرك حقيقة عجزه.. لكن لماذا يعجز مثله؟ لم أكن أوّل امرأة في حياته.. سبقتني أخرى أنجب منها طفلاً.. ومات الاثنان في حادثة.. التقيته بعد عامين من ذلك الحادث المروع خلال إجازة صيف اعتدت قضاءها في صحبة الوالدين، في بيت أحد أصدقاء الأسرة كانت معرفتي به.. كنت قد تخرجت في كلية الطب وأنهيت عام الإمتياز وأصبحت كما تمنى الوالدان الحلم الذي عاش في خيالهما منذ حكم عليهما القدر بألا ينجبا غيري.. تفوقت وأرضيت غرورهما بالابنة الطبيبة كما يزهو إخوة لهما بأبنائهما الذكور.. تقدم الكثيرون لخطبتي لكن الوالدين لم يجدا في واحد منهم مَنْ يليق بوحيدتهما الجميلة المتميّزة علمياً.. لكن قلبي خفق لعاصم، ليس لوسامته وحسب إنّما لشخصيته.. شخصية تأسر بالحنان من غير ضعف.. سخية العطاء رغم عمق المأساة التي عاشتها.. بُهرت به.. ورغم علمي بأنّه عازف عن الزواج من جديد تقربت منه. وتلاشت الحواجز، جاء اليوم الذي اعترف فيه كلانا بحب الآخر. واتّفقنا على أن يزور الوالدين كما اتفقنا على أن يعمل على الإنتقال إلى العاصمة في الشركة الاستثمارية التي يعمل بها.. طبعاً استقبل من الوالدين بعدم الرضا، فلم يكن من وجهة نظرهما مطابقاً للأوصاف.. ولأوّل مرّة رأيت والدي جافاً.. وللمرة الأولى لاحظت قسوة أمي الجارحة، وخرج عاصم من المقابلة متألماً، لكنه كان أنبل من أن يثور، وبخاصة أنني وقفت بجانبه.. ووسط هذه الأجواء تزوجنا وكان الإحتفال بزفافنا أقرب ما يكون إلى المأتم.. ووسط هذه الأجواء كانت ليلة الزفاف وكانت أيضاً المفاجأة.. تصورت أنّه متشوق.. ألست المرأة التي يحبّها وتحبّه؟ وتتابعت المحاولات اليائسة وبدأ كل شيء يذوي حتى التفاهم.. وكل منا كان يهرب من الآخر، حتى وصلنا إلى نقطة الخطر، واتخذ هو قرار البعاد وسافر إلى الإسكندرية تمهيداً للخطوة الأخيرة.. أغمضت عيني.. أنا التي لا أستحقه.. تصورت أحياناً بإيحاء غرور غرسه الوالدان في أعماقي، أنّني فريدة مرغوبة وأن على الآخرين بذل الجهد للوصول إلى أعتابي.. وتصورت أحياناً أنّ مودة زملائي لعاصم ليست سوى مجرّد مجاملة، وأنّهم من وراء ظهري يسخرون من اختياري ويستنكرون كما استنكر الوالدان تماماً، لكنني الآن اكتشفت مدى حبهم وتقديرهم له.. كبيرهم مثل صغيرهم.. وصلت إلى المستشفى واستجاب الله الدعاء.. وحينما فتح عينيه كنت أوّل مَنْ وقع بصره عليها.. أمسكت بيده. رفعتها إلى شفتي.. أدرك في تلك اللحظة أنني مصمّمة على إكمال المشوار معه.. بلا تعالٍ ولا غرور.. فهو بمعايير الإنسانية يفضلني كثيراً.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق