• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مظاهر العبودية في المجتمع المسلم

أسرة البلاغ

مظاهر العبودية في المجتمع المسلم

◄في أي مجال تتحقق العبودية: لقد أصبح المعنى المتبادر إلى الذهن من لفظ العبادة عند كثير من الناس محصوراً في تلك المجموعة من الأعمال، كالصوم والصلاة والحج والدعاء وأمثالها من الأفعال التي يؤديها الإنسان بعيداً عن ممارسات الحياة وأجواء المجتمع.

وهذا المفهوم الضيق للعبادة لا يتناسب مع مفهوم القرآن الكريم وتعبيره عنها، فالقرآن يؤكد أن العبادة تتحقق في كلّ فعل أو تفكير أو تسليم نفسي يصدر عن الإنسان ويقصد به التقرب إلى الله سبحانه وبما أن العبادة هي الصيغة العملية للتعبير والإعلان عن العبودية، فإن العبودية لا تتحقق إلا إذا جعل الإنسان كلّ أفعاله وأعماله من صلاة وصوم وجهاد، وحكم وسلطة وبيع وتجارة، وكسب وتعامل مع الناس ودفاع عن الحق، ومحاربة للفساد والطغيان، وتفكير في العالم، وكسب للعلم وانتفاع به، وأعمار الأرض وإصلاحها،..الخ، تسير وفق شريعة الله وأمره ونهيه، ولا يقصد بها إلا التقرب منه وكسب مرضاته، لذا فإن القرآن الكريم يخاطب الرسول ويدعوه إلى الإخلاص في العبادة ليتحقق الإخلاص في العبودية، ويؤكد من خلال ذلك أن العبادة التي هي مظهر التعبير عن العبودية، لا تتم إلا بالسير على هدى القرآن، والالتزام بمنهجه وتطابق الحياة مع شريعته وطريقة تنظيمه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين).

وينتج من ذلك أن مفهوم العبودية في الإسلام يتسع كلما اتسع مفهوم العبادة، ليشمل رعاية الإنسان للحياة والعناية بالجسم وحاجات البدن، والحفاظ على الصحة وتوفير العيش، بل ورعاية الحيوان والاهتمام بالحضارة والمدنية وأعمار الأرض لأن كلّ هذا الاهتمام من الإنسان يعبر عن الخضوع لإرادة الله والتنفيذ لحكمته ومشيئته التي شاءت لهذه الكائنات – الإنسان والحيوان والنبات – أن تعيش تحت ظل رحمة الله فيكون التعامل مع خلق الله وفق إرادته عبادة، تعبر عن الشعور بالعبودية .

لذلك توجه القرآن بالذم واللوم إلى أولئك الذين ينشرون الخراب والدمار في الأرض، ويشيعون في ربوعها العبث والفساد، ويسعون للقضاء على مظاهر الحياة والعمران والمدنية فيها، فقال عز أسمه : (وَإذا توَلى سَعَى فِي الأرْض ليُفسِدَ فِيهَا وَيَهْلِكَ الحَرْثَ وَالنسْلَ وَالله لا يُحِبُّ الفسَاد ) (البقرة / 204).

ولكي يتجلى لنا معنى العبودية، وتتضح لنا سعة انطباقها وشمولها على كلّ نشاطات الإنسان الفردية والاجتماعية بصورة عامة، دون أن تنحصر مظاهرها في بعض الممارسات والشعائر، نبين فيما يلي المجالات التي يتحقق فيها العبودية ، والمظاهر التي يعبر بها الإنسان عن عبوديته لله سبحانه:

1-    التسليم العقلي: ونقصد به الخضوع العقلي القائم على أساس الفهم اليقيني الواعي لعظمة الله وقدرته، وهذا الخضوع يجب أن يكون نتاج القناعة العقلية الآتية من التفكر بخلق الله وعظمته بحيث تشكل هذه القناعة وضوحاً عقلياً كاملاً، فتكون قاعدة عقايدية أساسية للتسليم بالعبودية تسليماً تنبني عليه طوابق البناء الفكري والنفسي والسلوكي الذي يمارسه الإنسان، لذلك وجه القرآن الأنظار إلى تأملات إبراهيم وتسليمه، لنستوحي مضامين التسليم العقلي المعبرة عن مفهوم العبودية لله – كي لا يقف العقل موقف الكبرياء والعناد (وَكذلكَ نري إبرَاهِيمَ مَلكوت السّمَاوَات وَالأرْض وَلِيَكونَ مِنَ المُؤمِنينَ) (الأنعام / 74). ولذلك أيضاً وجه القرآن أنظارنا بقوله: (الذينَ يَذكرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقعُوداً وَعَلى جُنوبهمْ وَيَتفكرُونَ فِي خلق السّمَاوَاتِ وَالأرْض رَبّنا مَا خلقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانكَ فقِنا عَذاب ((آل عمران/ 190). فكل ذلك ساقه القرآن الحكيم لنا لنكتشف الرابطة والعلاقة الكامنة بين التسليم العقلي بعظمة الله وتصاغر العقل أمامها وبين الإحساس بالعبودية، بعد أن نستنتج أن كلّ شيء في هذا الوجود خلق بعلم وحكمة إلهية بالغة يعجز الإنسان عن مجاراتها، ويتصاغر أمام عظمتها، لينزع العقل رداء الغرور ويخلع ثوب الكبرياء، فينحني أمام عظمة الله ليعلن خضوعه وعبوديته لخالقه العظيم .

 

2-     التوكل على الله وتفويض الأمر إليه: والمظهر الثاني من المظاهر السلوكية المعبرة عن صدق العبودية لله هو التوكل على الله، والاعتماد عليه والثقة به، وطلب العون والمساعدة منه، وعدم الاعتماد على أحد سواء، قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (الإيمان أربعة أركان: التوكل على الله والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله والتفويض إلى الله). ويأتي مفهوم التوكل هذا نتيجة حتمية للإيمان الواعي الذي يرد تفسير العالم، والحوادث والمقادير إلى الله سبحانه باعتباره هو الخالق، والمالك والقادر، وكلّ ما في الكون من أسباب وحوادث وتغيير..، خاصة لإرادة الله ومشيئته، قال تعالى: (وَمَن يَتوَكلْ عَلى اللهِ فهُوَ حَسْبُه)                              (الطلاق/ 3). (إليهِ يَرجعُ الأمْرُ كلهُ فاعبُدهُ وَتوَكل عَليْهِ) (هود / 123). ومن مظاهر التعبير عن العبودية لله هو: تفويض الأمر إليه، قال تعالى: (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد). وليس من مظاهر العبودية المتحققة في سلوك المتوكلين والمفوضين ظاهرة الاتكالية، والكسل وتعطيل مسؤولية الإنسان وواجبه الذي يجب أن يمارسه وفق الأسباب والقوانين الطبيعية المودعة في هذا العالم. بل على العكس من ذلك فإيمان المسلم بدور الأسباب والعلل الطبيعية في إنتاج الحوادث والنتائج يركز مفهوم العبودية والخضوع في نفسه، بتجلي خضوع الحوادث والأشياء للقوانين الإلهية القاهرة في هذا العالم، والمسيطرة على وجوده سيطرة تؤكد خضوعه واستسلامه وعدم قدرته على الخروج والتمرد، مما يوحي للإنسان بعموم هذه الحقيقة – حقيقة العبودية – وانضواء وجوده تحتها فيتعامل مع الحوادث والأسباب والنتائج وموضوعاتها تحت ظل عبودية كونية شاملة مستوحياً مفهومه من وحي القرآن ومضامينه: (أوَلمْ يَروا إلى مَا خَلقَ اللهُ مِن شَيء يَتفيّئوا ظِلالهُ عَن اليَمينِ وَالشمَائِل سُجّداً وَهمْ دَاخِرُونَ) (النحل/ 48). (وللهِ يَسجدُ مَا فِي السّمَاوَاتِ ومَا فِي الأرْض مِن دَابّة وَالمَلائِكة وَهُمْ لا يَسْتكبرُونَ) (النحل/ 49).  (والنجمُ والشجرُ يَسْجُدان) (الرحمن/ 6).

3-     وتتحقق العبودية لله سبحانه: في ممارسة الأعمال التعبدية الفردية التي يمارسها الإنسان خالصة لله، من غير رياء ولا نفاق، وبتوجه وإخلاص صادق كالصلاة والصوم والحج والدعاء.. الخ، فإنها أسمى مظهر من مظاهر التعبير عن العبودية، شريطة أن يستشعر الإنسان معنى الخضوع والتوجه والرغبة الصادقة في أداء هذه الأعمال التعبدية .

4-     تتحقق العبودية: بجعل كلّ عمل يمارسه الإنسان في الحياة متطابقاً مع إرادة الله، فالحاكم عندما يحكم بين الناس بالعدل، والتاجر حينما يمتنع عن الغش والربا والاحتكار، والعامل حينما يخلص في العمل، ويسعى من أجل الكسب الحلال، والقائد حينما يضحي من أجل الحق والإصلاح، والجندي عندما يجاهد في سبيل الله، والأب حينما يربي أبناءه تربية صالحة، وكذلك الذي يبتعد عن شرب الخمر، وقتل النفس، وظلم الناس أو يعطف على الفقير، أو يقضي حاجة محتاج، أو يستنكر عملاً قبيحاً أو يرشد إنساناً منحرفاً... الخ. عندما يعمل الناس جميعاً هذه الأعمال، أو يقفون هذه المواقف وأمثالها وفق أوامر الله وشريعته، إنما يمارسون العبادة بأوضح صورها ويحققون إرادة الله على حقيقتها (وَإنّ هَذا صِرَاطِي مُسْتقِيماً فاتبعُوهُ وَلا تتبعُوا السّبلَ فتفرّق بكمْ عَن سَبيلهِ ذلِكمْ وَصّاكمْ بهِ لعَلكمْ تتقونَ) (الأنعام/ 153). فالسير على طريق الله والالتزام بمنهجه وشريعته في الحياة هي: وصية الله التي أوصانا بها وطالبنا أن نلتزم بقوانينها وأنظمتها وتعاليمها، من حلال وحرام وواجب، ولا ننحرف عنها، فنتبع القوانين والنظم والمبادئ والأفكار التي وضعها الإنسان وفق مصالحه ومنافعه الأنانية الخاصة، فننحرف عن عبادة الله ونشرك هؤلاء الناس في العبادة مع الله، فنخرج على خط العبودية والإخلاص لله وحده. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) (التوبة/ 31). (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراماً وحرّموا حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون).

5-    تتحقق العبودية: بالتسليم الكامل لقضاء الله وقدره، والرضا بكل ما يقع على الإنسان من الله، انطلاقاً من الإيمان : بأن الله لا يفعل فعلاً إلا وفيه الخير والصلاح للإنسان. لأن الله عادل لا يظلم عباده، وحكيم لا يعبث، ورحيم لا يقسو، وقد أوضح القرآن مفهوم القضاء والقدر هذا بقوله (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (التوبة/ 50) (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير) (الحديد/ 22). ونحن نلاحظ في هاتين الآيتين: أن التسليم بالقضاء والقدر مرتبط بالإيمان بأن الله هو المولى والناس عبيد له متوكلون عليه، موقنون بنفاذ أمره وإرادته، وفي نهاية المطاف نستنتج أن العبودية في الإسلام لا ينحصر تجسيد مضمونها، ولا التعبير عنها، في مجموعة من عبادات الإنسان وأعماله، كالصوم والصلاة، والحج فقط، بل وتشمل كلّ تفكير ونشاط وسلوك وعلاقة إنسانية يمارسها الإنسان مع ربه ونفسه وعائلته أو مع مجتمعه ومحيطه ، شريطة أن يكون الدافع إلى ذلك هو التسليم لأمر الله والاستجابة لإرادته والرغبة في قربه. وهذا هو معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم) (الحج/ 77). ولكي يعي الإنسان معنى العبودية ويدرك أثرها وأبعادها في حياته، ويستشعر وجودها ومظاهر تحققها في عالمه، فيندمج في خطها، ويتطابق مع مصاديقها، لابد له من التوفر على شروط أساسية ثلاثة:

1-     المعرفة بالله، وبمنهج الدين الذي يوصله إلى تحقيق العبودية ويساعده على إظهارها والالتزام بخطها الواضح في الحياة .

2-    طهارة النفس وصفائها من رواسب الشرك المختلفة.

3-     الإخلاص لله في القصد والعمل.►

ارسال التعليق

Top