• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معرفة الله

معرفة الله
◄الحَمْدُ للهِ الذي لا يَبلُغُ مِدحَتَهُ القائلون ولا يُحصي نَعْماءَهُ العادُّون ولا يؤدِّي حَقّهُ المجتهِدُونَ الذي لا يُدرِكُهُ بُعْدُ الهِمَم ولا يَنالُهُ غَوْضُ الفِطَن الذي ليسَ لصفَتِهِ حَدٌّ مَحدُودٌ ولا نَعْتٌ موجودٌ ولا وقتٌ مَعدُودٌ ولا أجَلٌ مَمدُودٌ فَطَرَ الخلائِق بقدرَتِهِ ونَشَرَ الرِّياح برَحْمَتِهِ ووَتَّدَ بالصُّخُورِ مَيَدانَ أرْضِهِ.

اعلم أيها المؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكون وما فيه وأوجد العالم وما يحويه، فخلق السماوات وزينها بزينةٍ الكواكب وخلق الأرض وجعل ما عليها زينة لها وجعل الشمس ضياءاً والقمر نوراً، وخلق الجبال فجعلها أوتاداً، وخلق البحار والأنهار فكان منها ملح أجاج ومنها عذب فرات، وجعل من الماء كلّ شيء حي، وبث في الأرض من كلّ دابة وضمن لها رزقها وأنشأ النخل والزرع مختلفاً أُكله.

و اعلم أيها المؤمن أنّ الله – عظمت قدرته – قد سخّر كلّ هذا لعباده الذين خلقهم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، ولم يكن عزّ وجلّ ليسخر لنا هذا عبثاً أو لهواً فإنّه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإنما كان ذلك منه جل جلاله لما ميزنا به عن سائر مخلوقاته حيث خلق لنا العقل الذي خاطبه سبحانه فقال له: أقبل فأقبل وأدبر فأدبر فقال تعالى: "وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أكرم عليَّ منك، بك أثيب وبك أعاقب وبك آخذ وبك أعطي".

فبالعقل يعرف الله ويعبد وبه يشكر ويحمد.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن أوّل ما افترض الله سبحانه وتعالى على عباده وأوجب على خلقه معرفته لما لذلك من تأثير في طاعته وترغيب في عبادته، فقد روي أنّه جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: "ما رأس العلم؟ قال (ص): معرفة الله حقّ معرفته، قال: ما حقّ معرفته؟ قال (ص): أن تعرفه بلا مثال ولا شبيه وتعرفه إلهاً واحداً خالقاً قادراً أوّلاً وآخراً وظاهراً باطناً لا كفوٌ ولا مثل له، وذلك معرفة الله حقّ معرفته.

وقال أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليّ بن أبي طالب (ع): "أوّل الدين معرفته وكمالُ معرفتِهِ التصديق به وكمال التصديق به توحيدُهُ وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ صفةٍ أنها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوفٍ أنّه غير الصفة...".

وقال أكمل البشر محمّد (ص): "أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة".

وذلك لأنّه لا يمكنك أن تعبد الله من دون أن تعرفه، فقد روي أنّ إمامنا الحسين الشهيد (ع) قال لأصحابه: "أيها الناس إنّ الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة مَن سواه".

واعلم يا بني أنّ عقلك هو أوّل من يدلُّك على وجوب معرفة الخالق سبحانه، وذلك لأنّ العقل يحكم بلزوم شكر المنعم ومجزل العطايا ومفيض الوجود والنعم، ولابدّ من أن يكون هذا الشكر مناسباً لحال المشكور حتى تستطيع أن تشكره بما يناسب مقامه ويليق بشأنه وأنت ترى أيها المؤمن أنّ الله سبحانه قد غمرنا بنعمه ظاهرة وباطنه وأفاضها علينا وجللنا بها فلابدّ من شكر واهب هذه الأمور ومنشرها، وليس هو وكما قلنا إلّا الله تعالى.

ثمّ إنّ عقلك هذا الذي دلك على وجوب معرفة ربك من خلال لزوم شكر النعم دلك كذلك على وجوب معرفته تعالى من طريق آخر، وهو أنك وُجدت في هذا الكون وأنت ترى اختلاف الناس في أفكارهم ومذاهبهم وعقائدهم وسمعت بثواب الله وجنانه وبعقابه ونيرانه فلابدّ لعقلك من أن يستنهض قواه ليبحث عن تلك الحقيقة الهامة والتي ليس فوق أهميتها شيء لتنجو من ذاك العقاب المحتمل.

ثمّ إنّ الله تعالى لم يكتفِ بما دلّك عليه عقلك بل أرسل الأنبياء والمرسلين ليعرّفوا ويرشدوا الناس إلى الله سبحانه وليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وبعث معهم الآيات والتوراة والإنجيل والزبور، وكان خاتم أولئك الأنبياء سيد البشر محمّد (ص) وكان كتابه آخر الكتب ذاك القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فجعل فيه تعالى الآيات الواضحات التي ترشدك إلى معرفته وتحثك على البحث عنه سبحانه، واعلم أنّ أقرب الطرق وأقصرها للوصول إليه جلت قدرته هو التأمل والتدبر في ما خلق من الآيات الباهرة والبينات الواضحة وأنّ أفضل طريق هو ما أشير إليه في كتاب ربّك وكلام نبيّك وأهل بيته (عليهم السلام)، فانظر إلى قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 53)، وقال عزّ من قائل: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (الروم/ 8).

وقال سبحانه وتعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (يونس/ 101).

وتأمّل في قوله عزّ وجلّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 32-34).

وكذلك انظر لقوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية/ 17-20).

ودقق النظر عزيزي المؤمن في قوله سبحانه: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 68-69).

وقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).

ثمّ انظر في كلام أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب (ع) عندما سُئل عن إثبات الصانع فقال: "البعرة تدل على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير".

وتأمل غاية التأمل في ما ورد عن أمير المؤمنين أيضاً من قوله (ع): "ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق، ولكنّ القلوب عليلة والبصائر مدخولة. ألا ينظرون إلى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه وخلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر، انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تُنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفول برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً، فتعالى الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها فاطر ولم يعنه على خلقها قادر، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كلّ شيء وغامض اختلاف كلّ حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار وتفجر هذه البحار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات فالويل لمن أنكر المقدر وجحد المدبر...".

فالحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته.

فإذا عرفت ذلك وفهمته جيداً فاعلم أنّ الله هو العالم الذي أحاط علمه كلّ شيء حيث يقول عزّ من قائل: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام/ 59).

وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) (آل عمران/ 29).

وقال سبحانه أيضاً: (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 3).

واعلم أيها المؤمن أنّ الله على كلّ شيء قدير وهو القادر الذي لا يعجز، وأنّه السمع البصير، "سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه".

واعلم يا مؤمن أنّه (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام/ 103).

واعلم أنّه تعالى القادر على كلّ شيء وأنّه (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم/ 35).

واعلم أنّه تعالى حكيم أحسن كلّ شيء خلقه فقال سبحانه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2).

 

وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): "قدّر ما خلق فأحكم تقديره".

واعلم أيها المؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى إله واحد لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً تعالى عما يشركون، وذلك كما قال سيد الوصيين الإمام عليّ (ع): "الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان".

واعلم أنّه تعالى ليس بجسم ولا في جهة ولا محل ولا متحد بغيره.

واعلم أنّه سبحانه العادل الذي لا يجور حيث قال عزّ من قائل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (آل عمران/ 18).

وقال أمير المؤمنين (ع): "وأشهد أنه عدل عدَل وحَكَم فصْل".

وقال كذلك (ع): "الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه".

وبعد هذا كلّه أقول لك عزيزي المؤمن احفظ ما ذكرت لك وكن لربك من الحامدين ولآلائه من الشاكرين، فقد بينت لك من الأدلة على الخلق والشواهد على صواب التدبير قليلاً من كثير وجزءاً من كلّ فتدبره وفكر فيه واعتبر به.►

 

ارسال التعليق

Top