• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مـاذا فعــلا بــي

بهاء الدين الخاقاني

مـاذا فعــلا بــي

كانت سعيدة فوق العادة وهي تضيفنا بنشاط ، في وقت العاصفة الرملية اللاهبة وضعت أوزارها، وما زال لون الأجواء أصفرا ..
شعرت بنباهتها أن الفضول أصابني من حركتها الدائبة النشطة، فالتفتت.. وقالت : .. حسنا ..
لتنطلق بالحديث ..
 كانت الأجواء عاصفة رملية صيفية بشدة، وكلا الصغيرين من الولد والبنت المسحوقين فقرا وقذارة، من أجواء العاصفة الرملية الحارة التي كانت تثير بي الرعب من غضبها، دون أن ألمس أي أثر للرعب على وجهيهما المصفرين من الأتربة أو الجوع لا أدري..
كلاهما يرتديان ملابسا متهالكة في الزمن وممزقة هنا وهناك وعريضة، بل هي أقرب الى أوصال من القماش، وهما ينزفان عرقا من قيض الصيف خلف الباب، عندما فتحته بعد سماع الطرقات عليه ..
فسألني الولد المسكين : .. أعذريني أيها السيدة .. هل لديكم ما هو مهمل .. ؟ ..
ابتسمت بوجههما، لربما كانا يعتقدان أننا نملك ما هو فائض على حاجتنا، فقد كنت أبيع كلّ ما يتقدم به الزمن أو يبلى أو ما يصغر على أهل بيتي من الملابس لسد حاجة ما أو اِضافته على سعر حاجة ضرورية للأبناء أو البيت، وبذلك ربما شفقة بنفسي لم أتمكن أن أصارحهما بعدم وجود أشياء فائضة، وأن حالتنا المادية ليست بتلك الجودة كي أساعدهما ..
وجدت نفسي فيهما، وكأنني أحدق في مرايا تعكس وضعنا عبرعينيهما الساهدتين الراجية المتعبة، فأحترت بالأجابة بما يشبه التمتمة التي أظهرتني أحاول التخلص منهما وقلقة من هبوب الأتربة داخل المنزل..
 كانت حالتنا تغالب شفقتي عليهما، مشغولة البال بما يمكن أن أساعدهما به في خيال بين زوايا البيت ومخابئه دون أن يرتقي الى ما أتمناه لمساعدتهما، حتى سقطت نظراتي على كعبيهما الصغيرتين العاريتين المحمرتين من الحرّ والمتشققتين من المشي ..
فقلت لهما : .. أدخلا لتشاركوني كأسا باردا من اللبن مع التمر ..
لمحت بريق دمع لهما من فرحة اِنقاذهما للحظتة من القيض اللاهب، فأدخلتهما دون تردد منهما الى المطبخ، ولم أكتفي باللبن والتمر، وفرحت اِذ وجدت عندنا  أكثر من اللبن والتمر يمكن أن أقدمه لهما، فكان هناك الخبز والجبن والخضروات، فوجهت البنت البريئة طلبا بسؤال لي ..
: هل يمكن أن نأخذ شيئا من هذا الى أهلنا ..؟ ..
فرددت عليهما بايجابية، وطلبت منهما أن ينظفا أقدامهما بعد غسل كفوفهما..
فأجابني الصغير : ستتلف من جديد في الشارع..
اقتنعت برده، وتركتهما منشغلة بعمل الطبخ، أن يأكلا بحرية، مستمتعين ببرودة البيت ..
لمحت البنت المسكينة تفحص التمر حبة حبة متذوقة الحبات في لسانها بحيرة، وسرعان ما سألتني ..
: أعذريني سيدتي .. هل أنتم أثرياء ..؟ .. 
احترت من فضولها المحبب المثير، وقد مررت عيني نحو الأرائك التي توحي للخبير بأني أرتق تلك الشقوق بين أونة وأخرى، ولكن بجمالية الألوان من أوصال حاجات متبقية قديمة وحديثة، كي أخفي الخلل فيها ومثلها كل لوازم المنزل حتى الستائر والأغطية وغير ذلك، والتي بات بعضه كالمزهريات، وقد اعتقد الكثيرون، بأنني اشتريتها بالأصل هكذا، لأسأل أحيانا عن المحل الذي أتسوق منه بهذا الذوق، فأكتم الحقيقة اِلا على أهل بيتي أو من يدري كما يقول المثل العراقي بالبير وغطاه ..
فرددت على سؤالها البرئ : .. ما الذي دفعك لهذا السؤال .. ؟ ..
فأجابت : أدوات المطبخ ألوانها متناسقة .. والتمر حباته متنوعة الأنواع ..
 منعت نفسي أن أجادلها، لأني شعرت أنهما أخذا انطباعا جيدا عني، واقنعتهما أن يأخذا زوجا حذاء، كنت قد قررت بيعهما كعادتي ..
راقبتهما مسرورة، اِذ وجدت شيئا يسعدهم على الأقل، وهما يلملمان أكياسهم مما أخذاه مني وقد أخفيا الحذائين دون أن يلبساهما ..
رغم فضولي من الموقف لم أسألهما عن أسباب عدم ارتدائهما، لربما كون الطريق متربا وما زالت أقدامهما متلوثة، أو ربما فكرا ببيعهما، فلم انتظر جوابا منهما بل تركت أسئلة كثيرةرغبت معرفة أجوبتها منهما كرغبتي في أن أعرف كيف يشخصون من الذوق الغني من الفقير، وهما يلفا وجهيهما لاتقاء العاصفة التي تجلد وجهيهما رملا وحرارة، طالما كانت الحياة الجميلة أسئلة بلا اِجابة.
غابا ما بين اصفرار الأفق، وكانت كلمات البنت الصغيرة تذوب كالثلج في فكري الساخن، لتجعلني لأول مرة في حياتي أدقق في أدوات المطبخ ..
عشت في تلك اللحظة آثار تناسقها كما نبهتني الصغيرة..
ذهبت لاضافة البطاطا الى التشريب الذي نادرا ما أضيف له لحما، وبدأت خلطه كعادتي ولكن هذه المرة بحماسة ..
شعرت بجدران البيت والسقف الذي يحميني وعائلتي من العواصف..
هناك صدى زوجي السالم وهو في عمل يسد بالمقدور حاجاتنا..
ضجة أطفالي يمكن أن يبنون مستقبلهم بتوفيق  الله أيضا ..
لذة محبة الاهل والاصدقاء من حولنا ..
زوج من الأخذية مع لبن بارد أسعدت بهم طفلين بريئين من الفقراء ..
كل ذلك متناسق مع بعضه كما قالت البنت البريئة، فمسكت الكرسيين الذين أجلست الصغيرين عليهما أمام التبريد، وقبلت خشبهما قبل أن أعيدهما الى غرفة الجلوس رغبة بتقبيل رأسي الطفلين الفقيرين، لأجد الغرفة فخمة وأنا أنظمها كعادتي من جديد ..
ماذا فعلا بي هذان الصغيران ..
وأنا أمسح آثار قدميهما على سطح المطبخ، قررت اِبقاء آثار بقع أكلهما على قماش المنضدة، كيما تذكرني دوما بأننا أثرياء .

ارسال التعليق

Top