• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مفهوم الصبر وقيمته في الإسلام

مفهوم الصبر وقيمته في الإسلام

◄يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157).
يؤكّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة وغيرها، أنّ الصبر يمثّل القيمة الإنسانية التي ترتفع بالإنسان إلى مواقع رِضى الله، بحيث إنّه ينال الصلوات منه سبحانه وتعالى، المعبِّرة عن رضوان الله ومغفرته ورحمته، وإعطاء صفة الهدى للصابرين، لأنّ الله عزّوجلّ يريد للإنسان أن يكون قوياً أمام التحدّيات، سواء في تحدي النفس الأمّارة بالسوء التي تجرّ الإنسان إلى خطّ الانحراف والبعد عن الله تعالى والتمرد عليه، أو في ما يواجهه الإنسان في حياته من المصائب والمشاكل والخسارة وكلّ أنواع البلاء من المرض وغيره.

إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يتماسك ولا يسقط أمام أيِّ حادثٍ يحدث له، أو أمام أيّ مشكلة تعرض له، أو أيّ شعور يتحرّك في داخل نفسه ليقوده إلى بعض الأعمال السلبية. فقد يواجه الإنسان بعض حالات الخوف، سواء من خلال ضغط القوى الظالمة والمستكبرة، أو من خلال بعض الأوضاع التي يخاف فيها الإنسان على نفسه أو أهله أو مواقعه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ـ وذلك عندما تتهدَّد المجاعة المجتمع من خلال الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تنال الواقع ـ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَال ـ كما نلاحظه في نقص الأموال من خلال الأزمة الاقتصادية المالية الكونية التي أصابت الناس جميعاً، ومنهم المؤمنون الذين فقدوا أرصدتهم المالية بفعل هذه الأزمة ـ وَالأَنْفُسِ ـ وذلك عندما يفقد الإنسان بعض أحبائه وأعزائه ـ وَالثَّمَرَاتِ ـ عندما يحصل الجدب في الأراضي ويقلّ المطر).

معنى البلاء

وإذا كان الله يقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ - فإنّ ذلك لا يعني أنّه هو الذي يُنزل البلاء بشكلٍ مباشر -، ولكنّ طبيعة الحياة والأسباب التي أعدّها الله تعالى قد تفرض الكثير من ذلك، لأنّ الله جعل للحياة قوانين قد تؤدِّي إلى النقص أو الزيادة، فالله يبسطُ الرزق لمن يشاء ويقدر له. والكثير من الناس يسقطون أمام أنواع البلاء هذه، ولكنّ الله يريد للإنسان أن يكون قوياً صلباً متوازناً، فلا يسقطه البلاء بحيث يفقد إيمانه وعزّته وحرّيته، لأنّ النقص الذي يواجهه الإنسان في موقع ما، ينبغي أن يكون دافعاً له لتجديد حركته، ليتفادى هذا النقص في المستقبل، وليعوّض ما خسره بما يملكه من طاقة وجهد.

- وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - نحن ملك الله- وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - فسنرجع إلى الله تعالى -، وسنرى جزاء هذا الصبر، وهو الرحمة والثواب والمغفرة ـ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ـ فالله يصلّي على الصابرين كما يصلّي على رسوله وعلى المؤمنين، والصلاة من الله على المؤمنين هي المغفرة والرحمة والرضوان منه، أمّا الصلاة من الله على النبيّ (ص) فإنّها تعني رفع درجته ـ وَرَحْمَةٌ ـ فالله يرحمهم في أنفُسهم وأهله موكل أنواع حياتهم ـ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»).

ونقرأ في آيةٍ أُخرى عن هؤلاء الذين أخلصوا لله وساروا في خطِّ الأنبياء، قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ـ وهم الذين عاشوا الإخلاص لله تعالى ـ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146). ويقول تعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا ـ لا يكن مجتمعكم مجتمع المنازعات والخلافات التي تضعفكم ـ فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ـ لأنّ الأُمّة التي يتحدَّى بعضها بعضها الآخر، ويقتل بعضها بعضاً ستفشل، بينما إذا توحدّت فستنجح ـ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46). وورد في نداء الله تعالى للنبيّ (ص): (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (المعارج/ 5)، والصبر الجميل هو الذي ليس فيه شكوى إلى الناس، بل الشكوى إلى الله تعالى.

صبر رسول الله في مواجهة التحدّيات

وهناك حديثٌ عن الإمام الصادق (ع)، يتحدّث فيه عن أسلوب النبيّ (ص) في مواجهة الأوضاع التي كان المشركون يتحدونه فيها، وكان الله تعالى يواكب آلام نبيّه وأحزانه ومواقفه، فيُنـزل عليه في كلِّ مرحلة من المراحل آيةً، يقول (ع): «إنّ مَن صبر صبر قليلاً ـ لأنّ العمر مهما امتدَّ فإنّه قصير ـ وإنّ مَن جزع جزع قليلاً». ثمّ قال (ع): «عليك بالصبر في جميع أُمورك، فإنّ اللهَ عزّوجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ـ ليس فيه قسوّة أو شدّة ـ وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) (المزمل/ 10-11) ـ فقد تكفّل الله سبحانه بمواجهة مَن غرّتهم أموالهم والنِّعَم المغدَقة عليهم ـ وقال تبارك وتعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصِّلت/ 34-35) ـ فقد أمره الله سبحانه بالصبر على التحدّيات، ليكون أسلوبه مع أعدائه الأسلوب الذي يحوّلهم إلى أصدقاء ـ فصبر رسول الله (ص) حتى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ كاتهامه بالسحر والجنون والافتراء على الله، وغيرها من أساليب الأذى التي مارسوها ـ فضاق صدره ـ لا من خلال الحالة النفسية الخاصّة، بل لأنّ مثل هذه الاتهامات قد تعطّل عليه (ص) حركته والتفاف الناس حوله ـ فأنزل الله عزّوجلّ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر/ 97-98) ـ اتركهم وانفتح على الله، وسبّحه، واسجد بين يديه، والله يفرّج عنك ويشرح لك صدرك ـ ثمّ كذّبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل الله عزّوجلّ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) (الأنعام/ 33-34) ـ وسيأتيك النصر، كما نصر الله الرُّسل الذين قبلك ـ فألزم النبيّ (ص) نفسه الصبر فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه ـ عندما جحدوا بآيات الله تعالى ـ فقال (ص): «قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهيّ»، فأنزل الله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) (ق/ 38-39)، فصبر النبيّ (ص) في جميع أحواله، ثمّ بُشِّر في عترته بالأئمّة ووُصفوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه :(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة/ 24)، فعند ذلك قال (ص): «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»، فشكر الله عزّوجلّ ذلك له فأنزل الله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف/ 137)، فقال (ص): «إنّه بشرى وانتقام»، فأباح الله عزّوجلّ له قتال المشركين، فأنزل الله تعالى: (فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة/ 5)، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (البقرة/ 191)، فقتلهم الله على يدي رسوله وأحبائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخره له في الآخرة. «فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدُّنيا حتى يقرّ الله له عينه في أعدائه، مع ما يدّخر له في الآخرة».

ملازمة الصبر للإيمان

وعن الصادق (ع): «إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه ـ كأنّ الله يمثّل الصلاة كشيء حيّ ـ والزكاة عن يساره، والبرّ مُطلٌّ عليه، ويتنحى الصبر ناحيةً، فإذا دخل عليه المَلكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه». وعن الإمام عليّ (ع) أنّه قال: «الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسنٌ جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عزّوجلّ عليك ـ عندما تشتهي نفسك الحرام فتصبر وتشعر بالحرمان ـ والذكر ذكران: ذكر الله عزّوجلّ عند المصيبة ـ أن يقول: (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156) ـ وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرّم عليك فيكون حاجزاً». وعن الإمام الباقر (ع) قال: «لما حضرت أبي عليّ بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به: يا بُني، اصبر على الحقّ وإن كان مرّاً». فالحقّ مكلف، لأنّ الناس قد يكونون ضدّ الحقّ، فإذا تكلّمت بكلمة الحقّ، فقد يتهمونك ويضطهدونك، فإذا واجهت ذلك كلّه فعليك أن تتماسك.

وعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان». وعن الإمام الباقر (ع): «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدُّنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذَّتها وشهوتها دخل النار».

هكذا يريد الله تعالى للإنسان عندما  يواجه الحياة، في كلّ مشاكلها ومتاعبها وخسائرها وأوضاعها ومصائبها، أن يواجهها بالصبر وإرجاع الأمر إلى الله، وقد حدّثنا الله تعالى عن الصابرين في البأساء والضراء، لذلك علينا أن نعيش إنسانيتنا بقوّة، وأن نعيش الانفتاح واللجوء إلى الله في كلّ شيء، فهو حسبُنَا ونعم الوكيل ►.

ارسال التعليق

Top