• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

من مقومات التربية الصالحة

من مقومات التربية الصالحة

إنّ الولد للمسلم هو قرّة عينه وثمرة قلبه وزينة حياته الدنيا، وهو الصدَقة الجارية والعمل الصالح الذي يجري خلفه بعد موته، ولكن حتى يصبح الابن هو الذخيرة في الدنيا والآخرة، فلابدّ أن يتحمل الأهل، لاسيّما الأب، المسؤولية التربوية تجاه هذا الابن.

إنّ تنشئة أبناء مُعينين لوالدهم في دينه ودنياه وتعظم بهم منفعته في أولاه وأخراه، تتطلب التركيز على البيئة الصالحة والحضانة المتميزة الراشدة، من خلال التربية الصحيحة والرعاية القويمة التي تُثمر الهداية والصلاح والعفاف. أنّ الأولاد أمانة عند الوالدين، كلفهما الله تعالى بحفظها ورعايتها، وأوصاهما بتربيتهم تربية صالحة في دينهم ودنياهم، لأنّهم أولى الناس بالبر وأحقهم بالمعروف، والأبوان مسؤولان بين يدي الله تعالى عن أداء هذه المهمة. قال رسول الله (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته، الرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بَعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم".

    

- أمّة تُباهي بنسلها:

حين نتلمّس النصوص الشرعية، يتبيّن لنا عُمق مسؤولية هذه الأُمّة في تحقيق المباهاة بنسلها، كما أراده رسول الله (ص)، ففي قوله (ص): "تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأُمم يوم القيامة"، نُدرك أنّ المباهاة تقتضي أن تكون الذرية عزيزة صالحة، ونسلاً طيّباً وأبناء يحملون القيم وينصرون المبادئ ويتعاملون مع العقل ويرفدون الحياة بالأمن والاستقرار.

فليست العبرة بعدد باهت ونسل هزيل، يكون عالة على الحياة ونسخاً متكررة لا قيمة لها في ميزان القيم، كما وصف ذلك رسول الله (ص)، حين قال: "يُوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كلّ أفق كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قلنا يا رسول الله: "أمن قلّة بنا يومئذ؟. قال: "أنتُم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السّيْل". ويعنى ذلك، أنّ العبرة ليست بالعدد إنما العبرة بالكم المتقد جذوة وحيوية ونبوغاً وحكمة.

ففي قوله تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً...) (آل عمران/ 38). لم يقل زكريا في طلبه ذرية كثيرة، بل قال طيّبة، لأنّ المهم أن تكون كذلك، وليست العبرة بالكثرة المتهاوية. وعندما طلب سيدنا إبراهيم (ع)، الذرية، دَعا ربه قائلاً: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات/ 100).. فنظر إلى النوع ولم ينظر إلى الكمّ والعدد. وحتى الصالحين لم يطلبهم بكثرة، فلم يقل: رب هب لي الصالحين، وإنّما قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ). أي بعضاً من الأبناء الصالحين، فهو يطلب النسل المنضبط والنموذج الفاعل والنوع، الذي تتمثل فيه معالم الحكمة والأخلاق.

    

- نفقة طيّبة:

إنّ الله تعالى اعتبر الأبناء نعمة وزينة في الحياة الدنيا، قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) (الكهف/ 46). ولا يكون الأبناء كذلك إلا إذا صلحوا ونجح الأهل في تربيتهم وتعليمهم وتوفير مقومات الحياة لهم، حتى لا يكونوا الفتنة التي حذر الله تعالى منها. قال تعالى في الآية 28 من سورة الأنفال، وكذلك في الآية 15 من سورة التغابُن: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن/ 15). إنّ إعداد النشىء الصالح وتربية ذرية طيّبة صالحة، مَرْهونٌ بأمور عديدة، أهمّها طُرق الإعداد وأساليب التنشئة والتوجيه، ومن مقوّمات التربية ووسائلها الإنفاق على الأهل والعيال. لذلك، كان حمل النفس وترويضها على الرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل أولى من غيره، وكذلك الاجتهاد في الكسب من أجل الإنفاق، والقيام بتحرّي الأسس التربوية الكفيلة بالرعاية، فإن هذه الأعمال عظيمة الفضل، لأنّها رعاية وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم، وليس مَن اشتغل بإصلاح نفسه وغيره، كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط، ولا مَن صبَر على الأذَى كمَن رفه نفسه وأراحها، فمُقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله. لذلك قال بشر: فضل عليّ أحمد بن حنبل بثلاث: إحداها، أنّه يطلب الحلال لنفسه ولغيره.

وقد قال رسول الله (ص): "وإنّك لن تُنفق نفقة إلا أُجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك". وقال (ص) أيضاً: "وأيّ رجل أعظم أجراً من رجل يُنفق على عيال صغار بعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم".

وقال (ص): "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة".

    

- رحمة ورفق:

إنّ دور الوالدين يبدو كبيراً في تعهّد تلك البراعم الغضّة وتغذيتها وإصلاحها، وذلك من خلال التوجيه والإرشاد والعناية بأجسامهم وعقولهم ونفوسهم وأرواحهم على السواء، والتوغّل في عوالمهم النقيّة، لسَبْر أغوارها واستخدام أفضل السبل في صياغتها وتزكيتها، وهذا ما تمليه واجبات الأبوة وتشيعه معاني الرحمة في فناء الأخلاق الإسلامية الأصيلة.

فقد كان رسول الله (ص)، يقول: "ليس منّا من لمّ يرحم صغيرنا ويعرف حقّ كبيرنا". وعن أنس (رض)، قال: ما رأيت أحداً كان أرْحَم بالعيال من رسول الله (ص)، رواه أحمد ومسلم وابن حبان. فقد كان رسول الله (ص) يَرحَم الصغار ويحرص على الإحسان إليهم ويجتهد في مداعبتهم وإدخال السرور والأنس على قلوبهم، فقد قَبّل النبي (ص) بعض أولاده وعنده رجل من الأعراب، قال: أتُقَبّلون الصبيان؟ فما نُقَبّلهم. فقال رسول الله (ص): "أوَأملك لكَ أن نَزَع الله من قلبك الرحمة. وكان يُصلّي وهو حامل أمامةَ بنت ابنته زينب، إذا قام رفعها، وإذا سَجَد وضعها.

    

- وتربية صالحة:

حَثّ رسول الله (ص) على حُسن تربية وتأديب الأبناء ومن ذلك قوله (ص): "ما نَحَلَ والد ولدهُ أفضل من أدَب حسن". وبيّن أوجه ذلك، فقال "مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرّقوا بينهم في المضاجع".

وكان الأساس الذي بدأ به (ص)، هو تلقين الطفل كلمة التوحيد. عن جندب بن عبدالله قال: كنّا مع النبي (ص) ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثمّ تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً.. (حزاورة جَمع حزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم).. فعلّمهم النبي (ص)، الإيمان قبل أن يعلّمهم القرآن، والإيمان كما في الحديث "بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".

 

* د. كامل صقر القيسي

ارسال التعليق

Top