العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
◄التّقوى والقول السديد:
يختصر القرآن الكريم للإنسان حركته في الحياة التي تقرّبه إلى الله وترفع درجته عنده سبحانه. فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70-71)، فهناك في الخطاب القرآني كلمةٌ تتصل بحركة الإنسان في الحياة من حيث انسجامها مع طاعة الله وابتعادها عن معصية الله، وهناك كلمة أخرى تتصل بالخطِّ الذي يركّز الإنسان عليه قولَه مما يتصل بشؤون العقيدة والشريعة، وشؤون العلاقات الإنسانية، عندما يريد الإنسان أن يعبّر عن فكره ورأيه، وأن يحرّك الكلمة لتفعل فعلها في حياة الناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)، والنداءات التي تنطلق في القرآن بـ(أيها الذين آمنوا) ترمي إلى توعية الناس وتنبيههم، بأنّ ما يخاطبهم الله به، له علاقةٌ بالإيمان، بحيث أنّ الإنسان إذا لم يأخذ بذلك، فكأنّه لم يأخذ بالإيمان ولم يسر على خطِّه.. والتقوى تمثّل حركة الإيمان الذي يتجسَّد في واقع الإنسان.
فالإيمان بالله في عمقه وامتداده يمثّل الامتداد في خطِّ الله، ويمثّل شعور الإنسان بحضوره ورقابته سبحانه عليه، بحيث يحسّ بوجود الله معه، كما لو كان يراه، ويحسّ أيضاً بحضور الله معه، أكثر من إحساسه بحضور الناس معه، ولذلك جاء في الحديث: "تعبد اللهَ كأنّك تراهُ، فإن لم تكُن تراه فإنّه يراك"، وعلى هذا، فإحساس الإنسان بوجود الأشياء من حوله، هو إحساسٌ بوجود الله سبحانه، فهو لا يستطيع أن يتصور سماءً وأرضاً وجبالاً وأنهاراً وسهولاً وبحاراً وأشجاراً تصوراً مفصولاً عن تصوّره لله سبحانه، لأنّ وجود الكون يمثِّل ظلَّ وجود الله سبحانه، فالله سبحانه هو الحقيقة، وكلّ الكون هو أثر وجوده تعالى. ومن هنا، فإنّ الله لا يريد لنا أن يكون الإيمان عندنا مجرّد فكرة في العقل أو كلمة في اللسان، وإنما يكون حضوراً في العقل والقلب والحركة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2)، ومثل هذا الإيمان يفتح حياة الإنسان على التقوى، لأنّ التقوى تمثّل شعور الإنسان برقابة الله عليه، فالإنسان الذي يتقي الله، فإنّه يخافه ويحسب حسابه، وحساب الوقوف بين يديه ومساءلته له. وعلى هذا، فالمؤمن بالله عليه أن يمارس الحياة من خلال المسؤولية، ويتحرّك فيها ليبتغي الوسيلة إليه، ولابدّ له أن يقرن الإيمان مع التقوى، لأنّ إيماناً بلا تقوى لا معنى له، ما يصدق الفكرة هو العمل، فعلامة الصدق في الفكر والإيمان، هي العمل.
تعصي الإلهَ وأنت تُظهر حبَّه *** هذا لعمُرك في الفعال بديعُ
لو كان حُبُّك صادقاً لأطعته *** إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: وهو يجيب سائلاً عن جماعة من الناس يقولون: إننا نخاف النار ونرجو الجنّة، قال (ع): "كذبوا ليسوا براجين ولا خائفين، مَنْ رجا شيئاً طلبه، ومَنْ خاف من شيءٍ هرب منه" فإذا كنت تطلب الجنّة، فعليك أن تطلب الجنّة بكلِّ ما يمهّد الطريق إلى الجنّة، وإذا كنت تخاف من النار، فعليك أن تهرب من كلِّ ما يدفعك إلى النار، أما أن تخاف النار وترجو الجنة، وتعمل كلَّ ما فيه معصية لله، إنّك تكون كمثل من خاطبهم أمير المؤمنين عليٌّ (ع): "أبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا اللهَ في دار قدسه هيهات لا يُخدَعُ اللهُ عن جنته" فالجنّة لا تُوهَب مجّاناً "الجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات".
ولذا، كان الخطاب القرآني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)، راقبوا اللهَ في كُلِّ أعمالكم، فإذا رأيتم واجباً فافعلوه، وإذا رأيتم حراماً فاتركوه، وإذا رأيتم شبهة فقفوا عندها، فإنّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكة (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ليكن قولكم قولَ الصواب والحقِّ والعدل، لأنّ السداد في القول، يعني استقامة القول على الخطّ الذي يرتبط بالحقيقة والواقع وبالنتائج الكبرى التي يرتفع بها مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة. لذلك، لا تكن كلماتك كلمات انفعالية، أو ارتجالية، أو كلمات طائرة في الهواء، تلقي الكلمة كيفما طرأت على فكرك. لذلك فكّر أوّلاً فيما يمكن أن تثيره الكلمة في حياة الناس من إيحاءات سلبيّة أو إيجابيّة، وفكّر في معنى الكلمة ومضمونها، هل أنّ هذه الكلمة تعطي معنىً يرتبط بالله وبمصلحة الإنسان، وبما يحبّه الله للحياة، أم لا؟ لتكن كلمُتك الكلمةَ التي تبني ولا تهدم، والكلمة التي توحِّد ولا تفرّق.. لتكن كلمتك الكلمة التي تهدي ولا تضلّ، والكلمة التي تؤكِّد الحق وتتنكّر للباطل، الكلمة التي تؤكّد العدل وترفض الظلم، لأنّ كلمتك جزء من عملك. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (ع) أنّه قال: "مَنْ لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه" فإذا لم تركّز على كلماتك فإنّ أخطاءك تكثُر، ولذا، فإنّ علياً (ع) يعطي للإنسان إيحاءً بطبيعة حركة الكلمات في موقفه من الله تعالى، فقد رأى إنساناً يتكلّم كثيراً، قال له: "يا هذا إنك تُملي على كاتبيك" – وفي رواية على حافظيك – "كتاباً إلى ربِّك" فكلماتك هي عبارةٌ عن رسائل ترسلها إلى ربِّك. فأنت عندما تشتم، فذلك رسالةٌ منك إلى الله، وهكذا عندما تفحش في القول، أو تشهد شهادة زور، أو تؤيّد إنساناً يريد الله منك أن ترفضه، وترفض إنساناً يريد الله منك أن تؤيّده وتقف معه.. إنّ هذه رسائل يوميّة تكتبها إلى الله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، فالكلمات التي تطلقها، هي تقارير يوميّة يقدّمها الملكان عنك إلى الله سبحانه.. فكيف تواجه المسألة؟ وإذا كنت تخجل من الناس عندما يسمعونك تشتم زوجتك أو أولادك أو جيرانك أو مَن هم تحت يديك من عمّال وما شاكل، وتستحي أن يسمعوك متلبّساً بالكلام البذيء أو الفاحش، ألا يجدر بك أن تستحي من الله في ذلك؟ لنتعلّم قول الكلمة المركّزة (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) لنعش الكلمة المنطلقة من موقع الفكر، ومن حسابات المسؤولية، الكلمة التي لها دور في بناء المجتمع والحياة، الكلمة المسدّدة والبعيدة عن الخطأ والانحراف.
نتائج التقوى وثمرات القول السديد:
وهكذا، يريد الله للمجتمع المسلم، والفرد المسلم، والأُمّة المسلمة أن يكون قولها في كلِّ خطاباتها وحركاتها، القول السديد الذي ينتج الخير ولا ينتج الشرّ، فإذا ما فعلتم ذلك (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) باعتبار أنّ الأعمال عادة تختزن بعض الخلل بنسب معينة، فإذا كنتم تتّقون الله وتقولون القول السديد، فإنّ الله يتمّم لكم أعمالكم الصالحة ويتقبّلها كما لو أنّها تامة، فإذا تقبّل الله العمل كعمل صالح وكامل، فإنّ الله يعطيكم الأجرَ الكبير والعظيم الذي تستحقونه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فالتقوى وإن جاءت متأخرة، فإنّها سببٌ من أسباب غفران الذنوب المتقدّمة.. فإذا عصى الإنسان فيما مضى وأسرف على نفسه، ولكن عاد وأحسن عمله واتّقى الله وأصلح طريقه، فإنّ الله يغفر له ذنوبه بعد أن عاش عمق التوبة في حركته (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 71)، وللإنسان أن يتصوّر عظمة الفوز في رضوان الله ونعيمه ورحمته (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصّلت/ 31).
ضخامة المسؤولية وقبول الإنسان لها:
وبعد الحديث عن الإيمان والعمل والتقوى والقول السديد، يصوّر لنا القرآن الكريم مسؤولية الإنسان مُقارَنَةً بكلّ القوى الضخمة في الحياة.. فكم هي السماوات والأرض واسعة وضخمةٌ وممتدّة، فإذا قاس الإنسان نفسه إلى السماوات هل يكون إلا ذرّة ضائعة، أو إلى الأرض، هل يحسب نفسه أكثر من حبة تراب، أو إلى الجبال، هل يكون لا حصاة من صخرة في صخورها؟. ومع ذلك يقارن القرآن بين مسؤولية الإنسان وبين حجم هذا الكون (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72)، والأمانة هي التكليف والمسؤولية، وكأنّ الله يصوِّر السماوات والأرض والجبال كأنّها مخلوقاتٌ عاقلة، ويخاطبها مخاطبة السيد للعبد العاقل الواعي: أيّتها السماوات إنّني أحمّلك مسؤولية حركتك في كلِّ الظواهر الموجودة في داخلك وعليك أن تقدّمي لحساب، وأنتِ أيتها الأرض، أحمّلك مسؤولية كلّ ما في داخلك وعلى سطحك وفي أعماقك في كلِّ هذه المخلوقات الجامدة والحيّة والنامية،وفي كلِّ البحار والأنهار والأشجار، فتحمّلي مسؤوليتك ومارسي دورك في كلِّ ما لله إرادةٌ فيه، وأنتِ أيّتها الجبال الشامخة في الفضاء، الممتدة في الأرض، والواسعة الأبعاد، إنّ في داخل وجودك حركة وقوانين وأوضاعاً، ولك دورٌ في طبيعة حركة الحياة ونظامها، فتحمّلي مسؤوليتك في حركة الوجود.. وكان جواب هذه المخلوقات العظيمة (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا) وتتوسل إلى الله: ربَّنا، الأمانة ثقيلةٌ، صحيحٌ أنّ الجبال تحمل ما تحمل، والأرض تختزن ما تختزن، والسماوات تحوي ما تحوي، ولكن يا ربّنا لا نستطيع تحمُّل الأمانة، لأننا سنقف بين يديك لنقدّم الحساب، ولا قدرة لنا على تقديم الحسابات بدقّة، ربما ينحرف وضعٌ هنا أو هناك، أو ينحرف قانون في هذا المجال أو ذاك، وعندها نقع في خطأ إدارته. وهكذا (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) (الأحزاب/ 72)، فالخطأ يعرّضنا لعذاب الله وسخطه وغضبه، وكما يقول أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل "وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض" ولأنّها لا تستطيع تحمّل غضب الله، تركت لله وحده أمر تنظيم القوانين والسنن فيها، وليس لها إلا أن تطيع من خلال وجودا التكويني.
أما الإنسان، فقد وقف بعنفوانه، وقال: أنا الإنسان صاحب العقل الذكي يدير الكون، أنا الذي أملك حرّية الإرادة والحركة بالمستوى الذي أستطيع فيه أن أكتشف أسرار الكون وأديره. أنا للمسؤولية جدير، فحمِّلني يا رب كلّ المسؤوليات، لك أن تأمر وسأطيع أوامرك، إنهني ولن أعصيك فيما نهيتني، حدّد لي البرامج والخطوط، وسأنفّذ كلَّ هذه البرامج (وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) حمل الأمانة بكلِّ غروره وكبريائه وجهله (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) ظلم نفسه ولم يفكّر بحجم المسؤولية، فجهل النتائج وغفل عن دوره، ولم يتحرّك في طريق الاستقامة..
وماذا كانت النتائج؟ (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ) (الأحزاب/ 73)، هؤلاء الذين يُبطنون شيئاً ويُظهرون شيئاً آخر (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة/ 14)، فسيعذِّبُ اللهُ هؤلاء (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) (الأحزاب/ 73)، لأنّهم عبدوا غير الله (وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (الأحزاب/ 73)، الذين يتحرّكون في خطِّ حفظ الأمانة، وهم قد يخطئون قليلاً، ولكنهم يرجعون إلى الصواب والاستقامة (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201)، سيرحمهم لأنّهم يعيشون ذكر الله عملاً وبعداً عن معصيته (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب/ 73)، فهو تعالى غفورٌ لمن استغفره وانفتح بإيمانه عليه، ورحيمٌ لمن استرحمه. إنّ الله ما زال يطرح علينا الأمانة، فلنكن الأمناء على حلال الله وحرامه، ولنكن الأمناء على بلاد الله وعباده، ولنكن الأمناء على الإيمان والإسلام، والأمناء على حاضر المسلمين ومستقبلهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119).►
المصدر: كتاب من عرفان القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق