• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مقارنة بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي

مقارنة بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي

   ◄لم يكن جديداً على الحياة الإنسانية أن ي يشرّع الإنسان لنفسه القوانين والأنظمة، ويضع لها منهج الحياة والتنظيم بمعزل عن شرع الله وبمنأى عن العلاقة به.

    فقد دأب الطغاة من الناس منذ فجر التاريخ على فكرة الخروج على إرادة الحقّ والخير في هذا الوجود، متخذين من أنفسهم آلهة تعبد، ومن ذواتهم أصناماً تقدس في محراب الظلم والطغيان.

    ولو تتبعنا نشأة القوانين التي تحكم حياة المجتمع بصيغتها الوضعية المتسلطة لوجدناها جميعاً تمثل إرادة الحاكم، وتعبر عن أغراضه ومشيئته في الحياة، بعيدة عن التطابق مع المصلحة الحقيقية التي تعبر عن مبادئ الحقّ والعدل، لأنّ القوانين الوضعية جميعاً لا تعبر عن واقعها إلا عن الرغبة في تعبيد البشرية لإرادة الطغاة وإخضاعها لأهواء المتسلطين الذين اتخذوا من أنفسهم آلهة جبابرة، فصاغوا من إرادتهم قوانين وتشريعات لتكون طوقاً يشددون على رقاب الناس وحياتهم.

    وعلى عكس ذلك كان دور التشريع الإسلامي، فقد استهدف دوماً تحرير الإنسان والرأفة به والحفاظ على مصالحه وحياته:

قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/157).

    وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

    والمتأمل في هذين النصين يستنتج بجلاء ووضوح أنّ أهداف الإسلام وغاياته التي حددها القرآن هي تحرير الإنسان وإنقاذه من الظلمات إلى النور، والأخذ بيده إلى آفاق الخير والسعادة.

    ولو حاولنا بطريقة واعية منصفة استقراء كلّ من الشريعة الإسلامية، والقوانين الوضعية على مختلف مذاهبها واتجاهاتها الفلسفية والاجتماعية.. كالرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وأمثالها من القوانين والنظريات الوضعية الجاهلية – لو حاولنا ذلك – لاستطعنا أن نشخص أهم الفوارق التي تميز الشريعة الإسلامية عن القانون الوضعي وتحدد معالمه وهويته، ولأمكننا أن نركز أبرز هذه الفوارق في الحقائق التالية:

    1- قيام القانون الإسلامي على موازين ومعايير يوزن بها التشريع، ويقاس بها القانون:

    فللقانون الإسلامي ميزان يوزن به ومقياس يقاس على أساسه لتحديد طبيعته وقيمته، وأثره وغايته، واتساقه مع غاية الوجود الكبرى.

    فالقانون الإسلامي يقوم على أساس من معيار "الحقّ والعدل" كقيمتين ثابتتين في الحياة.

    ويشكل هذان المفهومان "الحقّ والعدل" الأساس والقاعدة التي يجري عليها التشريع الإسلامي بأسره، فما من قانون ولا تشريع إلا وقد قام على أساس هذين المبدأين، شأنه شأن سائر حقائق الكون الأخرى.

    ولو شئنا التعرف على فكرة "الحقّ والعدل" من وجهة النظر الإسلامية لاستطعنا أن نكتشف السر في قيام التشريع الإسلامي وابتنائه على هاتين القاعدتين، فهو يكمن في:

    أ- أن توفر صفة الحقّ في الشيء تمنحه أهلية الولادة والحدوث المشروع في حياة المجتمع، لأنّ الباطل لا موضع له ولا أصالة في نظر الإسلام، ولذا سمي باطلاً – أي زائلاً لا ثبات له وعبثاً لا مبرر لوجوده، وهدراً لا قيمة لذاته – وما هو إلا التناقض والاتجاه السلبي الذي يمارسه الإنسان ضد فكرة الحقّ، لذا رفضه القرآن واعتبره طارئاً زاهقاً لا يقوى على إحتلال مكان الحقّ والثبات في عالم التحقيق: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء/ 18)                                                      

  (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء/ 81).                                                       

  ومن يستطيع أن يشخص فكرة الحقِّ التي تمنح الشيء "قانوناً كان أو موضوعاً" أهلية الحدوث وإحتلال موقع محدد في عالم الوجود غير خالق الوجود الذي أحاط علمه بكلِّ شيء؟

    لذا جاء تشريع المشرّع الوضعي[1] باطلاً لا يعرف الحقّ واعتباطاً لا يعرف التقييم وجزافاً لا يعرف التقدير، وزائلاً لا يملك الثبات وعبثاً لا مبرر لوجوده، غير إرادة المشرع وهواه.

    فالإنسان المشرّع – وهو يشرّع – لا يعرف موقع التشريع ولا قيمته أو آثاره بالنسبة لحقائق الوجود وغاياته.

    لذلك وصف القرآن الكريم هذا التصرف من الإنسان بأنّه: خلط وخبط وتيه، وجهالة وتزييف، فتساءل مستنكراً تصرف هذا الإنسان الجاهل الذي تصدى لمسؤولية التشريع بقوله: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 42).

    (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)  (هود/ 16-17).

    ثم أكد بعد ذلك هدف التشريع الإلهي ودوره في تحديد الحقّ وطرد إفرازات النفس البشرية الضالة التي أقحمت على الحقِّ منهجاً وتشريعاً عابثاً باطلاً فقال تعالى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)  (الأنفال/ 8).

    (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105).

    ب- والمعيار الثاني الذي يقوم عليه التشريع الإسلامي هو معيار (العدل) والعدل هو الميزان الذي توزن به الأشياء، وتعرف قيمتها. ويحتل العدل الموقع الثاني في التشريع الإسلامي بعد مقياس الحقِّ، إذ كلّ شيء اكتسب صفة الحقّ يكون إقراره وتنفيذه في رأي الإسلام عدلاً وحذفه ظلماً وعدواناً.

    والعدل هو صفة الله المقدسة التي تنطبع آثارها في كلِّ أفعاله ومظاهر رحمته، بما فيها التشريع والقانون الموحى للبشرية جمعاء لذا فإنّ مفهوم العدل في القرآن يسلك كقاعدة أساسية تقوم عليها كلّ أفعال الله سبحانه، سواء التكوينية منها أو التشريعية.

    وقد عبر القرآن الكريم عن وجود هذا المقياس في الشريعة الإسلامية بعبارات مختلفة، كالميزان والقسط والعدل والقسطاس المستقيم.. إلخ.

    فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).

    (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)  (النساء/ 58).

    (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)  (الأعراف/ 28-29).

    (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)  (الأنبياء/ 47).     

    وكما دعى القرآن للعدل بالتأكيد عليه، قام أيضاً بشجب الظلم واستنكاره في مواضع متعددة وحمل على الظالمين وتوعدهم باللعنة والعذاب، مثال ذلك قوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)  (الشعراء/ 227).

  (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)             (غافر/ 52).

    وبذلك اعتبر الإسلام (العدل) قاعدة أساسية لقيام أي شيء في هذه الحياة، فلا يصح فعل أو قانون إلا على أساس فكرة العدل، لأنّ العدل يحدد للموضوع وللتشريع قيمته وقدره، ويبين موقعه في موازنة الأشياء والأحداث، ليأتي التشريع دقيقاً موزوناً لا تضييع فيه ولا ظلم، ويفقد القانون الوضعي مثل هذه القيم والمقاييس والموازين (الحقّ والعدل) بصيغتها الموضوعية وبطبيعتها الواقعية.

    لأنّه لا يملك فكرة واقعية محددة وثابتة عن مفهوم العدل: وإنما ينظر إليها نظرة نسبية تخضع لطبيعة الأوضاع والتقديرات الإنسانية الذاتية لذلك تحول مفهوم "الحقّ والعدل" إلى اعتبار إنساني تتلاعب به أهواء المشرعين ورغبات المقننين.

    ففقد القانون الوضعي بذلك أهم قواعده وموازين تقيمه.

 

    2- الموضوعية:

    تتركز الموضوعية في القانون الإسلامي في نزاهته من اندساس المصالح الذاتية والعوامل اللاشعورية التي تساهم بوعي وبلا وعي من المشرّع الإنسان في أحكامه وقوانينه التي يشرعها ويضعها، لأنّ عوامل البيئة والوراثة والتربية والاستعدادات الذاتية للفرد تساهم مساهمة فعّالة في فهمه وتقييمه وأحكامه.. كما أشارت إلى ذلك الدراسات الميدانية التي أجراها علماء النفس والاجتماع الباحثون في حقول هذه الدراسات والأبحاث، ويكتشف هذه الحقيقة كلّ من أخضع القوانين والتشريعات الوضعية لدراسة تحليلية وتحقيق فإنّه يجدها متأثرة بالبيئة والظروف والأوضاع النفسية والاجتماعية، وبالانفعالات والمصالح الذاتية للمشرّع، لذا فهي تحمل أمراض المجتمع، وتكرس إرادة المتسلطين لأنّها تتأثر بذات المشرع ونوازعه.

    أما القانون الإسلامي فإنّه قانون علمي موضوعي نزيه.. بعيد عن هذه الدوافع والمؤثرات التي تؤثر في المشرع الإنسان.

    لأنّ المشرّع الحقّ هو الله سبحانه، وهو منزه عن كلِّ هذه الميول والمؤثرات التي لا يمكن للإنسان أن يتحرر منها بصورة نهائية ومطلقة وهذا هو سر ابتناء الشريعة الإلهية على أساس الحقّ والعدل، واستيعابها لخير البشرية وأهدافها النبيلة في الحياة.

 

    3- وضوح الهدف:

    للقانون الإسلامي هدف واضح وغاية محددة، تحدد وجهة الإنسان في الحياة، وتبين غايته، فهو يشعر أنّ غاية القانون الإلهي هي تعبيده لخالقه، وتحريره من كلِّ خضوع وعبودية بشرية، وأنّ جزاءً عادلاً وغاية أخروية تترتب على أفعّاله القانونية التي يمارسها في الحياة، بعكس القانون الوضعي، فإنّ الفرد لا يشعر في ظله غير أنه مقيد بقيود الدولة والسلطة التي لا تملك غاية محددة، ولا هدفاً واضحاً غير مصالح الطبقة الحاكمة، وأهداف الفئة المتسلطة مما يدفع الإنسان إلى العمل على التخلص من هذه القوانين والكفاح ضدها.

    والإنسان في ظل هذه القوانين يظل يعاني محنة الضياع وغموض الهدف في الحياة، ولا يجد معنى للالتزام بالقانون أبعد من تحقيق غرض أني محدد أو حماية نفسه من العقوبة التي تفرضها الدولة عليه في حالة الخروج والتحدي لأنّ القانون لا يستطيع السير والامتداد مع غايات النفس ولا التعبير عن طموحاتها المطلقة في الحياة.

    فلذلك كان الإنسان الواقع في دائرة هذا القانون لا يحترمه ولا يقدس إرادته.. بل يتحين الفرص للتخلص منه كلما غفلت عنه عين الرقابة والسلطة، أو أحس بتفاهة القانون وضياع المعنى في الطاعة.

    ويدعم هذه الحقيقة ما يشير إليه دوائر الإحصاء المختصة بمتابعة الجريمة وحوادث الجنوح والخروج على القانون، فهي تؤكد تصاعد رقم الجريمة، وإزدياد عدد الحوادث والمخالفات.

    وتسجل في كلِّ عام نسبة تصاعدية تعبر عن فشل الأنظمة الوضعية وعجزها عن استيعاب مشاكل الإنسان وكسب طاعته واحترامه.

    بعكس القانون الإسلامي فإنّه يشجع الإنسان على التطبيق والدفاع عن إرادة التشريع وأهداف الشريعة.

    لأنّ الفرد في ظل القانون الإسلامي يشعر بحماية القانون لمصالح الإنسان ورعايته لأهدافه وغاياته في دنياه وآخرته.

    ومن هذا المنطلق الإيماني يجيء شعور الإنسان المؤمن بمسؤوليته أمام خالقه عن تطبيق إرادة القانون وتنفيذ مقرراته.

    ومن هذا المنطلق الفكري والعقائدي أيضاً، صار القانون الإسلامي يملك القوة الروحية والدافع الأخلاقي الذي يساعد على تطبيقه، وإنجاح أهدافه في الحياة أكثر من اعتماده على القوة والسلطة في ذلك.

 

    4- أخلاقية القانون الإسلامي:          

    يمتاز القانون الإسلامي باحترامه للأخلاق، واهتمامه بالحفاظ عليها، وارتباطه بها ارتباطاً وثيقاً، بخلاف القانون الوضعي.. فإنّه لا يلتزم بالأخلاق ولا يعنيه من أمرها شيء.

    فقد أهمل القانون الوضعي قضية الأخلاق، وتجافى معها تجافياً أوقع الحضارة البشرية في مأساة إنسانية مروعة، ارتكس الإنسان معها في مهاوي الانحطاط والسقوط.

    وقد امتد أثر هذا الانفصام – بين الأخلاق والقانون – ليشمل الحضارة المادية على اختلاف مذاهبها، ونزعاتها الاجتماعية المتباينة كالشيوعية والوجودية والفرويدية والرأسمالية وغيرها من المذاهب والفلسفات الاجتماعية كنتيجة حتمية لآتحاد مفهومها عن القيم والأخلاق الإنسانية.

    فالمذهب الرأسمالي مثلاً اعتبر مسألة الأخلاق مسألة سلوك فردي، وقضيتها قضية خاصة مرتبطة بالحرية الشخصية، وليس من حقِّ القانون أو الدولة أن تتدخل في شؤون الفرد أو تشرع لحماية الأخلاق، إلا إذا أصبح هذا السلوك خطراً على الآخرين.

    وإلا إذا دخل دائرة الإجرام في عرف القانون المشرع في البلاد انطلاقاً من الفلسفة العامة لمفهوم الرأسمالية الذي يؤمن بالحرية اللامسؤولة وينادي بها، ويبني كّل أنشطة الإنسان وأنظمة الحياة على أساسها.

    أما الشيوعية فتعتبر الأخلاق (كما عبر عنها البيان الشيوعي لزعيمي الشيوعية ماركس وأنجلس) خدعة برجوازية يجب القضاء عليها، إذ ورد في نص البيان أنّ "الدين والدستور والأخلاق خدعة برجوازية".

    فالأخلاق في نظر الماركسية ظاهرة اجتماعية فرضتها الأنظمة البرجوازية لتحمي نفسها، ولتخادع بها الجماهير وتموه عليها، فتقنعها بمفاهيم الرحمة والصدق والإباء والحياء والواجب والحقّ والبر... إلخ.

    لذلك فإنّ من ضرورات الثورة الماركسية كان هدم الأخلاق والقضاء عليها.

    في حين ينادي رسول الإنسانية محمد (ص) "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" و"أكملكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً".

    ليرسي قواعد الحياة على أسس أخلاقية رصينة تميز المجتمع والقانون الإسلامي عن غيره من المجتمعات والقوانين.

    لذا كان القانون الإسلامي قانوناً مشبعاً بروح الخلاق وملتزماً بغرسها وحمايتها في كلِّ ربوع الحياة التي يمتد إليها نشاطه.

   

    5- السعة والشمول:

    ومن الفوارق الأساسية بين القانون الوضعي والقانون الإسلامي هو فارق السعة والشمول التي يمتاز بها التشريع الإسلامي.

    فالتشريع الإسلامي لم يترك صغيرة ولا كبيرة من نشاط الإنسان إلا ونظمها بشكل قواعد وقوانين وأحكام دقيقة، بحيث تعامل مع الإنسان كوحدة موضوعية متكاملة بكافة نشاطاتها الاجتماعية والفردية، فنظمها وضبط سلوكها وأخضعها لانضباط قانوني متقن.. في كلِّ شيء.. في المأكل والمشرب والسلوك وفي علاقات العائلة والجيران والأصدقاء والعناية بالجسد واللباس... إلخ.

  

    فحرم القمار وشرب الخمر والزنا والخلاعة.. كما تناول الإنسان الفرد ضمن دائرة التنظيم الاجتماعي الواسعة، فنظم شؤون الاقتصاد والسياسة والحرب والسلم والقضاء والمال والعمل والتجارة... إلخ.

    أما القانون الوضعي فإنّ نشاطه لم يمتد لمثل هذه الآفاق ولم يزل يعاني من ضيق الأفق وعدم قدرته على تنظيم كلّ جوانب السلوك الإنساني، وبالطريقة التي تناولها التنظيم الإسلامي.

    لذلك نشاهد جانباً كبيراً من نشاط الإنسان مهملاً لم تتناوله يد القانون الوضعي، بحجة أنه سلوك فردي لا علاقة للقانون به، فأهملت الوحدة والترابط في النشاط الإنساني، وتركت مساحات واسعة من حياة الإنسان تعاني الفراغ والفوضى، مما أوجد ثغرات واضحة في الضبط الاجتماعي والتنظيم السلوكي بدرجة أصبح معها القانون الوضعي مشلولاً عاجزاً عن حماية العدل والسلام.

   

    6- التوافق وعدم التناقض في القانون الإسلامي:

   يشكل القانون الإسلامي وحدة موضوعية متكاملة، ومتجاوبة، يساند بعضها بعضاً ويساعد بعضها على تطبيق البعض الآخر.. فتحريم الخمر والقمار يسد باباً واسعاً من أبواب الجريمة التي حرّمها الإسلام.

    وحكم الإسلام ببطلان الصلاة في الأرض أو الثوب المغصوب يساعد على حماية الحقوق واحترام الملكية... إلخ.

    وهكذا ربط الإسلام وأحكم العلاقة بين كلِّ قوانينه وتشريعاته، بعكس القانون الوضعي الذي يعاني من التجزئة والتناقض وضياع الوحدة، فقوانينه مجزّأة متعارضة في كثير من الأحيان.

    وكما تعاني القوانين والتشريعات الوضعية من هذا التناقض والتعارض، فإنّ الدساتير الوضعية التي هي الأصل والمنطلق التشريعي للقوانين تعاني هي الأخرى من هذه الظاهرة الخطيرة أيضاً، مما دعا أجهزة التشريع في ظل هذه الوضعيات إلى تشكيل محاكم دستورية لمعالجة هذا التعارض وحله في كثير من الأحيان.

    والأمثلة كثيرة، والشواهد التي تعكس هذا التناقض متعددة.. فمنها ما نلاحظ من تعارض بين القوانين التجارية لبعض البلدان وبين التشريعات الاقتصادية والإدارية فيها مثلاً، أو تناقض هذه القوانين مجتمعة مع مفهوم الدستور السياسي للحياة، فمثلاً النظم الاشتراكية التي تسعى لحصر الثروة بيد الدولة وضرب التملك الفردي، نجد قوانينها تبيح التعامل مع المقاولين الأفراد أو مع الشركات الاحتكارية الكبرى..! أو نجد القوانين التي تبيح شرب الخمر للأفراد تلجأ إلى معاقبتهم عند الوقوع في شراك الجريمة المتأتية من السكر، بعد أن تمهد لهم الوقوع في شراكها وتغريهم عن طريق هذه الإباحة بارتكابها.

    وهكذا يقع القانون الوضعي في التناقض والصراع بسبب تعدد المشرعين، واختلاف نزعاتهم وقصور معرفتهم عن إدراك الحقيقة والمصلحة.   

 

    7- الإنسانية:

    والفارق المهم الذي يميز القانون الإسلامي عن القانون الوضعي هو وجود الصفة الإنسانية في القانون الإسلامي، فلا إقليمية ولا عنصرية، ولا طبقية ولا نفعية أنانية في نص القانون وروحه، لأنّ دعوة الإسلام دعوة إنسانية ورسالته رسالة عالمية.

    فقوانين الإسلام قوانين عامة، لم تشرع لمصلحة فئة أو لتركيز جماعة معينة دون غيرها، وقد حدد القرآن الكريم هذه الصفة بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)  (الأنبياء/ 107).

   

    بينما يعكس القانون الوضعي فهم المشرّع واتجاهه الذاتي، فتراه طافحاً بالمفاهيم اللاإنسانية التي تجعله يدور في حدود ضيقة، كالاقليمية، أو العنصرية، أو الطبقية أو الأنانية الفردية.. إلخ، مما سبب الظلم والحرمان والاضطهاد لكلِّ الذين لا ينتمون إلى دائرة هذا القانون المعبر عن ذاتية المشرّع، ونزعته اللاإنسانية العدوانية.

 

    8- الخلود:

    والميزة الكبرى التي يمتاز بها القانون الإسلامي هي صفة الخلود، وقد تمتع الإسلام بهذه الصفة التي توفر له القدرة على استيعاب العصور والبقاء مع الأجيال كقائد وموجه، ورائد لها في طريق الخير والهداية والبناء الحضاري السليم.

    نعم تمتع الإسلام بصفة الخلود هذه بسبب توفر عوامل ذاتية كثيرة فيه منها:

    أ- أنّ الإسلام يمثل منطلق الحقّ والعدل الأزلي في الحياة لأنّه يعبر عن إرادة الله وحكمته الأزلية في الوجود، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ)  (النحل/ 90).

    وقال: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف/ 29).

    وقال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105).

   ب- أنّ الإسلام يعبر عن الصيغة التشريعية الشاملة لكليات القوانين الإنسانية الخالدة في الإنسان ذاته سواء الجسدية منها والنفسية، أو الفكرية والروحية.

    فهو ليس وليد ظرف اجتماعي معين، ولا نتاج فكر إنساني محدود بحدود زمنية وفكرية محصورة، بل هو "الصياغة التشريعية لطبيعة الحياة الإنسانية والكشف الكامل عن قوانينها وأنظمتها".

    ج- ولأنّ الإسلام لم يفرض صيغة معينة للتطبيق والتنفيذ.

    بل جعل الوسائل والأساليب التطبيقية مرنة مفتوحة، يختار منها الإنسان في كلِّ عصر ما يمكنه من التنفيذ والإجراء، شريطة الالتزام بروح الشريعة والتنفيذ الكامل لمقرراتها.

    د- انفتاح باب الاجتهاد والاستنباط التشريعي والفكري الملتزم وفق الأسس والقواعد الفكرية والتشريعية المعتبرة في الإسلام.

    أما القانون الوضعي فلا يملك مثل هذه الخصائص والصفات، غير انه تشريع محدود يحدد إرادة المشرع ووعيه الاجتماعي المرتبط بحدود ظرفية ومصلحية تنعكس على روح التشريع وتدمغه بالعجز والقصور، وبشكل يجعله بعيداً عن الاستجابة لقوانين الحياة الطبيعية وتلبية النمو والتكامل الإنساني السليم، مما أعطى الفرصة للتلاعب فيه، وجعله صيغة فضفاضة تتلاعب بها إرادات المشرعين، وتتحكم بها أهواء المتسلطين الذين يضعون القانون ويبدلونه متى شاؤوا، ومتى ما تضارب مع مصالحهم وأهوائهم، مثلهم مثل الذين قال فيهم الكتاب العزيز: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (التوبة/ 37).

    فهم يملكون وضعه وتبديله والتلاعب به حتى كان ليس للحقِّ والعدل، ولا للقانون حقيقة قائمة بذاتها في عالم الوجود غير مصالحهم وأهوائهم الخاصة!.

    وصدق الله القائل: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)  (المؤمنون/ 71).

 

    وهكذا، فإنّ القانون الوضعي لا يمثل إلا إرادة المشرع المتسلط، ولا يعبر إلا عن أهوائه ومصالحه، بعيداً عن منطق الحقّ والعدل بصفته الموضوعية الحقّة، لأنّ الحقّ في عرف هذه القوانين هو كلّ ما يرتضيه المشرع، والعدل هو كلّ ما يتطابق وأهواء المقننين ويحمي تسلطهم ومصالحهم.

الهامش:


[1] - المشرع الوضعي هو الذي يضع القوانين من تلقاء نفسه وحسب رغبته ومشيئته.

فهو وضع الشيء في موضعه وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

تعليقات

  • 2020-05-17

    سالم

    احسنتم

ارسال التعليق

Top